عام قديم جديد د. بثينة شعبان
ما إن حلّ عام 2020 مع كل التوقعات والآمال والدعاء بأن يكون عام أمن وسلام ازدهار وأن نودّع فيه الحروب والإرهاب إلى غير رجعة إلى أن أطلّت بوادر حرب قديمة قدم حروب الفرنجة من ألف عام و جديدة منذ قيام الغرب بإنشاء إسرائيل على حساب شعب فلسطين لتقول إن تغيّر التواريخ والسنين لا يعني بالضرورة أبداً تغييراً في الأسلوب والأدوات والأهداف لأن الإنسان هو أساس التغيير ومنطلقه وهدفه، ومالم يتغير موقف هذا الإنسان ومنطلقه وهدفه فإن تغيير أرقام السنوات قد لا يأتي بجديد بل قد يشكّل حافزاً لإعادة التفكير فيما جرى وإعادة صياغته أو حتى إعادة استخلاص الدروس منه.
رغم كل ما يجري في العالم فإن مجريات الأمور في منطقتنا قد اثبتت وعلى مرّ التاريخ أنها جوهرية في توجيه دفة الأحداث في العالم برمته. ففي العقد الأخير وبما أننا نبدأ مع هذا العام عقداً جديداً فإن العقد الماضي هو الذي شهد أحداث الحرب التي أسموها “بالربيع العربي” وبرهن أنه جحيم عربي يتبع الحرب على العراق وحصاره وتدمير أمن واستقرار شعبه، وفي العقد الماضي عانت سورية وليبيا واليمن من حرب إرهابية شرسة ولكنها صمدت وقاومت وانتصرت وغيّرت معادلات في الإقليم وخارجه، ونتيجة أحداث العقد الأخير في منطقتنا تغيّرت المعادلات الدولية وأداء الدول الكبرى وأسلوبها في الأمم المتحدة ومجلس الأمن بحيث أخذت روسيا والصين أربعة عشر فيتو لمنع عدوان غربي مخطط ومدروس على الجمهورية العربية السورية وطالت العقوبات الأمريكية سورية والصين وروسيا وبالأخص إيران بعد أن انسحبت الولايات المتحدة منفردة من الاتفاق النووي الإيراني. وبرز نتيجة هذا السلوك وهذه الأحداث تحالف جديد من دول البريكس ومن إيران وأحياناً مع الباكستان في “حزام واحد طريق واحد” ومع الهند في مجالات وتحالفات أخرى. وفي هذه الأثناء ذاتها انفكت عقدة التحالف الأطلسي إلى حدّ ما بحيث ستخرج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، كما أن ألمانيا وفرنسا بدأتا علاقات ودية مع روسيا، وأخذت دول أخرى في الاتحاد الأوروبي تتصرف بشكل شبه مستقل عن سياساته التقليدية وتشكّل تحالفات داخل الاتحاد نفسه ولم يعد من البدهي أن تسير أوروبا في ظل سياسة الولايات المتحدة وكان الموقف من الاتفاق النووي الإيراني شاهداً على بداية هذا الفراق والذي يضاف إليه انسحاب ترامب من اتفاقات عدة أولها اتفاقية المناخ وفرضه رسوماً على البضائع الأوروبية. كلّ هذا يُري أن التحالفات والتوازنات قد تغيّرت في العقد الأخير انطلاقاً من التغيير العميق في منطقة الشرق الأوسط ولهذا ركزت الولايات المتحدة، القوة العسكرية والاقتصادية الأقوى إلى حدّ الآن، ركزت على محاولة تغيير دفة الأحداث في الشرق الأوسط بما يخدم استمرارها كقطب واحد مهيمن على الكرة الأرضية. فاستبقت جنود احتلالها على آبار النفط السورية وسلبت دول الخليج جزءاً معتبراً من ثرواتها بحيث أنهت تأثيرها الإقليمي والدولي، وتواطأت مع تركيا لاحتلال أجزاء من سورية ومدّ نفوذها الاقتصادي إلى العراق، ومن ثم تحريك تركيا كعضو في الناتو لبسط سيطرتها من خلال إرسال الإرهاب إلى ليبيا وربما مصر ودول المغرب العربي. وتضمّن هذا المسار شق الكتلة العربية بحيث تقف قطر مع تركيا وتعارضها مصر والسعودية. كما عمدت الولايات المتحدة في الوقت ذاته لإثارة أعمال الشغب في العراق ولبنان ضمن خطة استراتيجية لإضعاف إيران في مناطق تواجدها ونفوذها في الحلف المقاوم، ومن أجل إرغام لبنان أيضاً على تحديد حدوده النفطية والغازية في المتوسط كي تنعم إسرائيل بتنقيب مريح يصبّ في مصالحها وميزانيتها. وفي كلّ هذه المعادلات وجدت الدوائر المتصهينة في الولايات المتحدة أن الأطراف التي حاربت الإرهاب بشراسة في سورية والعراق هي الأطراف المرشحة لتغيير المعادلات على الأرض في المستقبل وهي الأطراف الوحيدة القادرة على تحرير الأرض والإنسان في هذه المنطقة وبما يتناسب مع مستلزمات التنمية والديمقراطية وبعيداً عن التشرذم والتفكك الذي فرضته الدوائر العثمانية على مدى قرون ومن ثمّ الاستعمار الغربي على بلدان وشعوب هذه المنطقة. ولذلك فقد ركزت هذه الدوائر في العامين الأخيرين من العقد الماضي على ضمان عدم حدوث تواصل حقيقي وفعال بين سورية والعراق أو بين سورية ولبنان كي لا يمتدّ هذا المحور الذي أثبت قوته وفعاليته من إيران إلى العراق وسورية ولبنان جغرافياً وسياسياً وبما يتناسب مع المصلحة العربية العليا في مقاومة الاحتلال والاستيطان وخلق كتلة قادرة على إعادة الحقوق إلى أصحابها الشرعيين في المستقبل المنظور. كما أن توجه هذه الكتلة شرقاً إلى روسيا والصين وعلى أكثر من صعيد قد ضاعف من المخاوف المنبعثة من نشأة وتطوّر هذا المحور وهي مخاوف صهيونية في الأساس والجوهر لأن الكيان الصهيوني الغاصب قد أدرك أنه بعد الحرب على سورية قد ابتلي بمحور مقاوم لن يسمح له بعد اليوم بشن حرب على بلد بمفرده بعد أن شارك الحليف الروسي ومستشارون إيرانيون ومقاومون من حزب الله في دحر الإرهاب في سورية، وبعد أن حقق الحشد الشعبي العراقي انتصارات حقيقية ضد الإرهاب على أرض العراق وبعد أن تعاونت سورية والعراق بعمليات مشتركة لدحر الإرهاب من على أراضيهما وسمحت كل واحدة للأخرى بملاحقة الإرهاب على أرضها بحيث رأت الدوائر الصهيونية المعادية في هذه التطورات تغييرات استراتيجية في الفكر والمقاربة قد تؤدي في المستقبل إلى خلق واقع متشابك ومتعاون ضد كلّ من يستهدف أي طرف من هذه الأطراف وهذا أخطر ما يخشاه الكيان الصهيوني منذ نشأته إلى حدّ يومنا هذا.
من هنا عملت الدوائر المعادية للشعب العربي في مختلف أقطاره والمعادية لهذا الحلف المقاوم على محاولة إجهاض نتائج الحرب على سورية بأي طريقة ممكنة فعملت على إصدار قانون القيصر بطريقة لا سابقة لها في الولايات المتحدة، والهدف الأساس لهذا القانون هو تمكين الولايات المتحدة والغرب من استمرار استهداف سورية وحلفائها بحيث يجدون من الصعوبة بمكان قطف ثمار دحر الإرهاب عن معظم الأراضي السورية والعراقية كما عملت على محاولة إخراج إيران من هذين البلدين وخلق الفوضى في العراق ولبنان كي لا تتمكن هذه البلدان من إرساء أسس الاستقرار بعد أن قاربت على دحر الإرهاب بشكل كامل عن أراضيها. ولهذا أتت جريمة اغتيال الشهيدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس لتعبّر عن الغضب الذي أثاره عمل هذين القائدين ليس في دحر الإرهاب فقط عن أرض سورية والعراق وإنما في تشكيل جذوة تحالف جديد يعتبر أهم ما جرى على أرض الشرق الأوسط منذ عقود آملين أنهم بفعل ذلك يقوّضون أي أساس لاستمرار هذا التحالف لتعزيز مواقعه على الأرض وتطويرها بما يخدم مكانته ليس في المعادلة الإقليمية فحسب وإنما في المعادلة الدولية وتشكّل العالم الجديد على أسس مختلفة عن الأسس التي أنتجتها الحرب العالمية الثانية.
ما كشفته دماء الشهداء إلى حدّ الآن هو أن هذا التحالف سوف يزداد قوة لأنّ عملية الاغتيال الإجرامية قد أوضحت حقيقتين هامتين للعالم برمته: الأولى هي أن الشهيدين سليماني والمهندس يتمتعان بمصداقية عالية ومحبة وتقدير لدى شعوب المنطقة سوف تزكي توجه المقاومة وتشدّ من أزره لعقود قادمة. والثانية هي أن عملية الاغتيال ليست دستورية ولم تحظَ بموافقة الكونغرس وفي هذا خلل كبير قد يكلف ترامب انتخاباته المقبلة. وهذا يُري أن العملية الإرهابية في اغتيال كوكبة من قادة مكافحة الإرهاب تشكّل استكمالاً حقيقياً لمحاولة السلطات الصهيونية التخلص من المطران العربي المقاوم “عطا الله حنّا” مطران الروم الأورثوذكس في القدس لأنه يناضل مع المسلمين والمسيحيين ضد الإرهاب والاحتلال والاستيطان. ولكنّ هذه السياسات المتهورة والتي تخطّها الدوائر الصهيونية في إسرائيل وواشنطن وتدعمها لوبيّات السلاح والنفط والغاز في الولايات المتحدة لن تجدي نفعاً حتى وإن أطالت في عمر الإمبراطورية التي تفقد مكانتها كقطب واحد مهيمن ولكنها لن تغّير في جوهر نتائج المخاض والذي أنتج حلفاً إقليمياً مقاوماً وحلفاً من دول البريكس وإيران سيكون لهما القول الفصل في مستقبل المنطقة والعالم. كما أن هذه الجرائم الإرهابية الفظّة تزيد من خسارة الولايات المتحدة لزعامتها المعنوية، وتزيد العالم قناعة أن المعيار الأساس الذي تعمل وفقه هذه الدوائر هو زيادة ثرواتها على حساب حقوق وحرية وكرامة الشعوب. كما أنّ مثل هذه الجرائم تساهم في الإسراع بخلق وعي جديد في الولايات المتحدة مناهض للسياسات والمصلحة الصهيونية التي تتناقض في جوهرها مع سمعة ومصلحة الشعب الأمريكي وتوجهاته الحقيقية. لا شك أن إرث الشهداء، كل الشهداء، سيساهم في تعرية الدوائر التي تؤيد الإرهاب وتستخدمه كأداة حقيقية لإخضاع إرادة الشعوب في الوقت الذي تدّعي محاربته. وبتكثيف العمل السياسي والإعلامي مع الثبات في المقاومة سينتصر أصحاب الحقوق على الساعين وراء المال والنفوذ ونهب ثروات الشعوب والبلدان تحت مسميات زائفة غدت مكشوفة للجميع. (1241 كلمة)