المقاومة وناقدوها وحصاد التجربة
غالب قنديل
تدل مؤشرات سياسية عديدة على تعثر الانقلاب الأميركي في لبنان الذي استثمر ثورة ملونة جرى تحضير منصاتها وأدواتها في حصيلة سنوات من العمل الدؤوب على تكوين شبكات الانجيؤوز والنخب الأكاديمية التي تحولت إلى ناشطين يتقدمون الجمهور الساخط بعد تفعيل الضغط الاقتصادي والمالي القاتل الذي جرى رفع وتائره خلال النصف الثاني من العام المنصرم لتجفيف السيولة من الأسواق المالية والقطاع المصرفي ولتوليد المتاعب المحفزة للتذمر والقلق من مخاطر تعثر وانهيار النموذج الاقتصادي والمالي الريعي التابع للغرب.
كان خطر الانقلاب على صيغة المساكنة السياسية في السلطة أول ما جذب انتباه قيادة حزب الله في صخب الاحداث التي لم تنجم عن سياق تلقائي طبيعي لمسار ازمة لاحت نذرها سابقا غير مرة وتم احتواؤها وتبريدها في سلسلة الحقن المالية والقروض عبرالمؤتمرات التي رعتها الحكومات الفرنسية المتعاقبة منذ عام 2002 بالوكالة عن سائر دول الغرب بقيادة الولايات المتحدة التي ارتأت هذه المرة أن الظرف مناسب لاختبار فرصة قلب صيغة المساكنة السياسية مع المقاومة التي سبق أن رضخت لها مضطرة منذ سنوات.
توهم بعض الأصدقاء والحلفاء ان فرصة تاريخية لثورة شعبية كبرى يجري تفويتها بإحجام الحزب عن دفع جمهوره إلى ساحات الاحتجاج منذ نداء المغادرة الذي تزامن مع اتضاح انحسار الطوفان العفوي للغاضبين وقد لاحت جديا مخاطر الركوب والتوظيف السياسي بينما زعم بعضهم ان قيادة المقاومة تبالغ في التحوط من خطر الانجرار إلى فخ الفتنة المذهبية بتوهم ان ما جرى شطب عهودا طويلة من فعل العصبيات الطائفية والمذهبية التي هي قنوات توزيع الريوع في نظام التقاسم.
في الواقع كانت قيادة المقاومة تملك المعلومات الدقيقة والتفصيلية عن الشبكات التي تتحرك لركوب الهبة العفوية وعن ارتباطاتها وهوية موجهيها الفعليين وظهرت بعد ذلك وقائع كثيرة عارية في الساحات وتبين أن خطر الاستدراج كان قائما ومتجولا وكان الاصطدام وشيكا لولا حزم قيادة المقاومة وصبرها وبصيرتها رغم ظهور فلتات مؤذية ومرفوضة نتيجة الغليان الشعبي في حلقة رد الفعل على الاستفزاز السياسي الممنهج.
تركز انتقاد أداء حزب الله على التمسك بترشيح الرئيس سعد الحريري لتشكيل الحكومة حتى مجاهرته شخصيا باعتذار علني وهو ما ركز عليه الناقدون الذين تمادى بعضهم في الشكل والمضمون وتطاولوا أحيانا على هيبة المقاومة وقيادتها التي حذروا قبل سنوات من مخاطر المس بها بينما صبرت قيادة المقاومة على ظلم ذوي القربى من أدعياء احتكار المعرفة والخبرة.
الغريب أن أولئك الناقدين تجاهلوا حقيقة التناقض الرئيسي وكون الصراع الدائر فعليا بين محورالمقاومة ومنظومة الهيمنة الاستعمارية وهو يستدعي حسابا دقيقا للتوازنات السياسية ولمدى نضج الظروف لإحداث تغيير جدي في المعادلات وأدار البعض ظهورهم لمشروعية اتباع تكتيكات سياسية مرنة في إدارة الصراع تحاكي ما لجأت إليه حركات التحرر في ظروف مشابهة بتعقيدها وصعوبتها وبحساسيتها الإنشطارية والتصادمية على حساب القضية المركزية.
تجاهلوا مثلا حقيقة أن قيادة الثورة الإيرانية وبعد انتصارها اختارت شخصيات محافظة وصديقة للغرب لمناصب حساسة كرئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة وكان ترشيح كل من مهدي بازركان وأبو الحسن بني صدر قرارا اتخذه الإمام آية الله الخميني شخصيا وفي الثورة الصينية اشتهرت عملية نظمها ماوتسي تونغ لتطويق مقر الجنرال شان كاي تشيك لإرغامه على توقيع ميثاق الجبهة الوطنية المتحدة ووقف الصدامات بين الشيوعيين والكومنتيانغ هذا مع فارق رئيسي وهو أن المقاومة لا تزعم لنفسها صفة قيادة ثورة شعبية ولاهي تزعم لنفسها صفة مرجعية تعطيها حق الانفراد في رسم التوازنات والمعادلات السياسية داخل لبنان.
لقد أثبتت التجربة العملية نجاح قيادة المقاومة وحلفاءها في إحباط خطة الانقلاب الأميركي واحتواء الفصول الأخطر من الهجمة المعادية ومنع تدحرج الأحداث نحو صدامات اهلية دموية بفضل وعي وحكمة المقاومة وقيادتها وجمهورها ويقظة وحكمة الشركاء والحلفاء بينما كان يسعى إليها آخرون بكل جدية ومثابرة كما أظهرت الأحداث صحة التشخيص الذي تبناه السيد نصرالله منذ خطابه الأول عن انفجارالغضب الشعبي .
من المفارقات الخطيرة أن يتشارك الناقدون في طمس وتجاهل برنامج الخلاص الحقيقي الذي طرحه السيد في خطاب التوجه شرقا والذي قدم العناوين الرئيسية لخيار التحرر من الهيمنة وإعادة البناء الوطني على أسس جديدة وقد كان المنطقي هو تحويل ذلك الخطاب إلى وثيقة ينصب الجهد الثقافي والإعلامي والسياسي على شرحها للبنانيين وتعبئتهم بمضمونها لتهيئة شروط تتيح الانتقال إلى مرحلة جديدة ببناء حركة شعبية عابرة للطوائف والمناطق اللبنانية حول هذا البرنامج تكون قادرة على تلقف الحالمين المحبطين وجميع الساخطين والناقمين الذين سيزدادون مع تمادي الانهيار الاقتصادي والمالي الذي وقع.
تذكير ضروري لكل من يدعي تفوقا فكريا اوثقافيا ان التواضع هو ما يثبت ادعاءه وليس اتهام القيادة المجربة بالجهل عند أول افتراق في التقدير السياسي وأن صواب التقدير لا يقرره حجم المعلومات الأفقية والسطحية أحيانا وما يصلح اقتراحا للمشورة في اجتماعات مغلقة لا يصح إشهاره إعلاميا تأدبا واحتراما للذات وللشركاء وأن من يقود قوة كبرى وفاعلة كالمقاومة لا يملك ترف التجريب والتسرع والاجتهاد الانطباعي تحت وطأة الأحداث والانبهار بوهجها الافتراضي دون تبصر وباستعجال من نفذ صبره وقد كان في محله منذ البداية تأكيد السيد على الصبر والبصيرة .