هل تعوض تركيا في ليبيا ما فاتها في سورية؟: العميد د. أمين محمد حطيط
لعبت تركيا منذ انطلاق الحرب الكونية ضد سورية، دور رأس الحربة في العدوان طامحة إلى اتخاذ سورية بوابة تدخل منها إلى كامل المنطقة العربية لإعادة إنتاج الدولة العثمانية البائدة وإعادة الروح إلى موقع خليفة المسلمين الذي طمح أردوغان بأن يلبس عباءته ويعتمّ بعمامته، متكئاً على تنظيم الإخوان المسلمين المعروف النشأة والسلوك والارتباط منذ أن ابتدع قبل قرن من الزمن.
ظن أردوغان ان حلمه الذي حشدت له قوى ناهزت الـ 260 ألف إرهابي، تقاطروا من 80 دولة، ممكن التحقق بأهون السبل وبأقصر المهل حتى ان غروره دفعه لتحديد مهلة 3 أشهر للتنفيذ، رآها كافية لأن تفتح له أبواب المسجد الأموي في دمشق ليؤمّ الصلاة فيه باعتباره “أمير المؤمنين” العائد إلى حكم المنطقة كما كان قبل الحرب العالمية الأولى. وبنى أردوغان كل حساباته وعقد الصداقات والتحالفات واتخذ مواقع العداء من الأطراف على أساس أن هذا الحلم محقق لا محالة وفقاً لهذا التخطيط.
لقد تصرّف أردوغان في الميدان مصدقاً نفسه بأنه بات فعلاً ولي أمر الشعب السوري وبأنه صاحب الولاية العامة على سورية وكل شؤونها، وسمح لنفسه بأن يوجه الأوامر للحكومة السورية ويضع الخطط لتنظيم حياة السوريين الذين حملهم على ترك بيوتهم واللجوء إلى مخيمات أعدّها مسبقاً في تركيا ثم شرع بالتعامل مع السوريين الذين وقعوا في فخه او قبضته او وصلت يده إليهم باعتبارهم رعايا للدولة العثمانية المستعادة واعتمد حيالهم سياسة التتريك والسلخ عن أصولهم وجذورهم سعياً لتكريس مفهوم رعايا السلطان الجديد بصددهم.
بالمقابل صمدت سورية وواجهت بصلابة العدوان الكوني الذي تنفذه تركيا وآخرون بدعم إقليمي ودولي، فشكل الرد الدفاعي السوري سداً منيعاً بوجه الأحلام التركية، حيث وجهت سورية وحلفاؤها الركلة ثم الصفعة، تعقبها ركله فصفعة لقوى العدوان. فأسقطت الحلم التركي على أبواب حلب التي سرق اردوغان معاملها وعلى أبواب دمشق التي زنّرها أردوغان بحزام إرهابي إجرامي خانق، ما ألزم أردوغان بالانكفاء إلى الحدود والتحصن في إدلب ومنطقتها إلى عفرين التي احتلها ثم راح يطرح المشاريع للشمال السوري من منطقة منزوعة السلاح إلى منطقة حظر جوي إلى منطقة آمنة إلى منطقة سلام إلى غيرها من التسميات التي جعلها عنواناً لمشاريعه العدوانية.
هنا وفي لحظة تعثر تركيا في سورية وانفضاض العدد الأكبر من تجمع أعداء سورية الدوليين، مدّت روسيا وإيران اليد إلى تركيا رغبة منهما بأن تراجع مواقفها وتوقف عدوانها على سورية ما يخفف من حجم متطلبات كسر العدوان على سورية وتقصير الوقت اللازم لاجتثاث الإرهاب منها وخفض الثمن اللازم لذلك. وهنا ننوه بان اليد الروسية – الإيرانية لم تمد إلى تركيا جهلاً بحقيقة الأهداف والسلوكيات التركية، بل كانت أملاً أن تراجع تركيا مواقفها بعد النتائج السلبية التي حصدتها وبالتالي فرصة لإخراج تركيا من مأزق مؤكد أدخلت نفسها فيه، في مقابل تحقيق مصلحة سورية مؤكدة تتمثل بالمحافظة على أمنها واستقلالها ووحدة أراضيها وسيادتها عليها. بهذه الخلفية تكوّنت منظومة أستانة الثلاثية لرعاية حل المسألة السورية.
لقد كانت أستانة ثم سوتشي، فرصة لتركيا لتخرج من مأزقها السوري، لا بل كانت فرصة لحجب الوجه العدواني الإجرامي البشع لأردوغان عبر تقديم تركيا عضواً في منظومة الأمن والسلام في المنطقة إلى جانب روسيا وأيران. لكن المطامع التركية والأحلام الخبيثة لدى أردوغان دفعته إلى اعتماد السياسة الزئبقية المتقلبة والمتنقلة بين صفتين صفة الراعي للسلام والأمن في المنطقة من خلال عضويته في مثلث استانة وصفة المعتدي صاحب المشروع التركي الخاص في سورية وهي الصفة الغالبة التي تتقدم أي اعتبار آخر. وامتهنت تركيا سياسة الكذب والانقلاب على التعهدات والنكول بالاتفاقات التي كانت تلتزم بموجبها بشيء ما ضد الإرهاب لدفع عجلة استعادة الأمن إلى سورية. وكان المشروع التركي الخاص هو المتقدم دائماً لا بل ان الخبث التركي دفع أردوغان إلى حد تسخير اتفاقات استانة وسوتشي في سبيل كسب الوقت والحؤول دون الجيش العربي السوري وتحرير إدلب. لعبة لعبها أردوغان منذ أيلول 2018 حيث كسب خلالها أكثر من 15 شهراً تأخيراً لانطلاق معركة تحرير إدلب من 65 الف إرهابي من السوريين والأجانب.
لقد استفاد أردوغان من هذا التأخير وأطلق عدوانه في شمال سورية تحت تسمية “نبع السلام” لإقامة المنطقة الآمنة، حسب زعمه وليتمكن من إنشاء حزام تركي بعمق 35 كلم وعرض 460 كلم داخل الأرض السورية، ليحدث فيه تغييراً ديمغرافياً ويفرض عليه تتريكاً يمكنه من اقتطاعه وإلحاقه بتركيا، ممنياً النفس أيضا بان يمنع سورية من تحرير منطقة إدلب ليضمها لاحقاً بالصيغ نفسها ما يمكنه من وضع اليد على مساحة إجمالية تزيد عن 25 ألف كلم2 أي مقدار 1/7 من الأراضي السورية.
لكن سورية ودفاعاً عن أراضيها وحماية لشعبها عملت على خطين في مواجهة الخطة التركية، فاندفعت قواتها إلى شرقي الفرات، حيث خططت تركيا لإنشاء المنطقة الآمنة تزامناً مع إعلان أميركا سحب جنودها من المنطقة، واستطاع الجيش السوري أن يجهض الخطة التركية بوصوله إلى الحدود مع تركيا في أكثر من نقطة ولم يتمكن الأتراك من احتلال أكثر من 4500 كلم2 من أصل 14000 خططوا لاحتلالها ثم، كانت المواجهات الميدانية التي تمكن من القول بأن عملية “نبع السلام” العدوانية التركية لم تنجح ولن تحقق أهدافها.
أما على الاتجاه الغربي فقد اطلقت سورية عملية تحرير إدلب مدعومة من روسيا وايران متجاوزة كل الكذب التركي والخداع الأردوغاني، انطلقت سورية للتحرير بالقوة بعد ان كانت وجهت رسائل ميدانية متتالية منذ مطلع العام 2018 ثم صيف 2018 حيث انتهت إلى تحرير خان شيخون. ثم كانت الرسالة السياسية العسكرية الأهم بزيارة الرئيس بشار الأسد إلى المنطقة ووقوفه على مشارف إدلب متعهداً بالتحرير التام والقريب، رسائل توخت سورية منها إفهام تركيا ان حبل الكذب قصير وان إدلب ستحرر بالقوة ان لم تنفذ تركيا تعهدها بإخراج الإرهابيين منها على مراحل نظمها اتفاق سوتشي بعد قرارات استانة.. وبهذا أحرج أردوغان على الاتجاهين الشرقي والغربي وكان وضعه في الغربي أصعب، نظراً لوجود 65 الف إرهابي سيكون مضطرا لتلقي نصفهم على الأقل في حال أنجزت سورية تحرير المنطقة وسيحار في وجهة استعمالهم ومصيرهم.
هنا وكعادته لجأ أردوغان إلى فتح باب عدوان جديد ضد دولة عربية أخرى، فكان اختياره لليبيا التي يؤمل ان يستغل حكومة السراج الإخوانية التي تقوم في طرابلس الغرب وأن يعدها بالدعم العسكري مقابل عقود إذعان توقعها معه في موضوع الحماية والثروة النفطية والغازية والمنطقة الاقتصادية الخاصة بها.
لقد اتجه أردوغان إلى ليبيا بعد سقوط حلمه في سورية، وبدأ بنقل الإرهابيين اليها من سورية في مهمة بالغة الخطورة والتعقيد حيث ستكون ليبيا اذا نجح مشروع أردوغان الجديد، ستكون محل تجميع الإرهابيين بقيادة تركية وسيشكل هؤلاء قوة ضاربة تتقدم الجيش التركي عندها يستطيع أردوغان ان يضغط بهم على كل من مصر والجزائر ويضمن الإمساك بقرار تونس والمغرب حيث الحكومات الإخوانية، وابتعد أردوغان كثيراً في حلمه هذه المرة واعتقد انه من ليبيا وبإرهابيين ينقلهم من سورية سيحكم الدول العربية في أفريقيا حيث يبدو انه أعاد النظر في لائحة الأولويات لديه، فبدل أن ينطلق من سورية للسيطرة على بلاد العرب في آسيا وأفريقيا يبدو انه قرر التمركز في ليبيا والتوجه منها شرقاً إلى مصر وغرباً إلى المغرب العربي فيضمن السيطرة ويتحكم بالغاز وأنابيبه معاً.
إنها أضغاث أحلام أردوغان التي لا نرى لها في ارض الواقع قابلية للتحقق في ظل وجود تكتل دولي منسق او ظرفي يواجهها خاصة بوجود الجهوزية المصرية والرفض الأوروبي والممانعة الروسية فضلاً عما ينتظره في الدول العربية ذاتها. لكن رغم الفشل المنتظر يبقى من شأن هذا الخطة التركية الإجرامية إثارة الفوضى وتسعير الصراع في المنطقة خدمة للمشروع الصهيوأميركي وخاصة ان مثل هذا الصراع سيمكن إسرائيل من التغلغل أكثر والدخول طرفاً او مكوناً في هذا الحلف او ذاك لتثبيت نفسها في المنطقة كقوة إقليمية قائدة فيكون أردوغان الفاشل في مشاريعه ناجحاً كالعادة في خدمة إسرائيل حليفته الاستراتيجية.
(البناء)