بقلم غالب قنديل

حيرة الحالمين والحقيقة المغيبة

غالب قنديل

شكلت الانتفاضة في أيامها الأولى نقطة جذب ساحرة لجموع الشباب الساخط والمهمش والعالق في مأزق النظام القائم على الريعية والمضاربة وحلموا بأن يكون التظاهر والتواجد في الساحات طريقا لفرصة تنقذهم من انتظار مقيت لفرص العمل بعد التخرج وللتخلص من عفن النظام السياسي الطائفي وتركيبته الاقتصادية الريعية الاستهلاكية التي يتحكم بها وكلاء الشركات الحصرية وأصحاب المصارف بقواهم النافذة والفاعلة سياسيا من خلال صيغ تقاسم المغانم التي فضحتها قبل سنوات ازمة النفايات التي اخرجت في حينه حشودا شابة تغلي بالغضب إلى الطرقات بحوافز رفض تدمير البيئة ومع انكشاف الصفقات التي تقاسمت  فيها الجهات النافذة ريوع سوكلين وبديلاتها وعمولاتها على حساب البلديات والصحة العامة والبيئة.

 

تلك القبضة الاحتكارية المرتبطة بالأجنبي ومنذ قيام سوليدير سخرت القوانين لحسابها ولصفقاتها الضخمة ومع سحقها لفرص تنمية الإنتاج الصناعي والزراعي حولت البلاد إلى منهبة وهي تتلهف لتجديد سيطرتها رغم الانهيار الحاصل والمتدحرج وتتطلع إلى المزيد  بموجة خصخصة شاملة لم يتردد رئيس الحكومة المستقيل في تقديمها وصفة جاهزة للخروج من المأزق المالي وهو استعارها من تقارير صندوق النقد الدولي ونصائح البنك الدولي ولائحة شروط مانحي القروض في مؤتمرسيدر بينما تتلهف الشركات الأجنبية للوليمة التي ستقام على جثة ما تبقى من الخدمات العامة فيتحول العيش اللبناني إلى جنة استهلاكية زائفة موعودة تحت قبضة الشركات الوافدة لتشتري وتدير كل شاردة وواردة.

إعادة هندسة الحياة تحت الهيمنة هي جوهر الوصفة الأميركية والغربية المعروضة والتي تم تغييب ناقديها عن المشهد وغيبتها خطب الأحزاب والقوى السياسية والشخصيات المنساقة في الموجة نفسها والتي أنست للمساكنة مع خليط المنظمات والجماعات المشبوكة تحت عباءة “الثورة” و”الحراك” الوارفة التي يستظلها الجميع فغلبت تلك القوى أفضلية الوحدة الحراكية على ضرورة نقد التجربة الفعلية بينما أهملت عمدا ملامح برنامج الخلاص الذي اقترحه قائد المقاومة في نص قوي عن ملامح  التغيير المنشود بالتخلص من الهيمنة الأميركية والانتقال من النموذج الريعي إلى تشكيلة عمادها إحياء الإنتاج وشبك لبنان بالمحيط القومي وبالشرق الكبير لإعادة بناء اقتصاده على أسس جديدة وهو ما صرح المخططون الأميركيون برفضه بلسان جيفري فيلتمان الذي وصفه بالخطر الاستراتيجي الداهم على المصالح الأميركية داعيا في الكونغرس إلى تعويم النموذج الريعي وربط الإفراج عن قروض جديدة لإنعاشه بشروط الإذعان السياسي لاستهداف المقاومة وحلفائها في السلطة.

حجبت تلك الحقيقة عن عيون الشباب وعقولهم بخطاب هادف اوحى بأن الفساد هو العلة الأصلية وتبارت الجهات المرتبطة بالغرب وبوكالاته في صفوف الشباب ووسائل الإعلام المشبوكة في شن الحملات والمعارك تحت شعارات مكافحة الفساد محصنة بالبعد الأخلاقي لمشروعية الصراع ضد سارقي المال العام والمتنفعين من صفقات تلزيم الخدمات العامة لتطرح رؤية إصلاحية قوامها “تهذيب” النموذج القائم اقتصاديا وماليا بتنقيته المزعومة بينما وجد السيد الأميركي فرصة سانحة لتجديد الهيمنة ولتطعيم الدوائر الخاضعة لنفوذه بوجوه جديدة وانساق الشباب في حماسة الموجة التي بدات تتكشف في ثناياها وجوه الخاطفين والراكبين وبينهم بعض شركاء النظام والأحزاب التي شاركت في السلطة وتلبست المواصفات التي روجها المسؤولون الأميركيون للحكومة الجديدة وظهرت في الساحات على يد شبكة من مجموعات حراكية فاعلة باتت هي الحاضرة في المشهد الإعلامي الطاغي على حساب العديد من القوى الوطنية المناهضة للهيمنة التي كانت سباقة طيلة ثلاثين عاما في نقد النموذج القائم والدعوة إلى تغييره.

ظهر الطامحون في الساحات يتطلعون إلى المقاعد الوزارية والنيابية بصفاتهم “الثورية” وبلقب الناشطين المعمم على نطاق واسع وبصفات الخبراء والمختصين التي اسبغتها المنابر الإعلامية المشبوكة إلى جانب ظهور الحراكات الحزبية والشعارات الطائفية وقد مني الشباب الحالمون باحباطات تراكمية منذ اكتشافهم لخدعة ما روج بينهم عن فضيلة قطع الطرقات كوسيلة ضغط “ثورية” وظهور تشكيلات ميليشيوية على الحواجز التي حاصرت الناس وشلت كل شيء وعزلت المناطق عن بعضها وفاقمت خسائر البلاد الاقتصادية والمالية وأوقفت الكثير من مظاهر الحياة فعطلت المدارس والجامعات ومرافق الإنتاج المتهالكة فظهرت التداعيات في صرف الآلاف من العمل وخفض الرواتب والأجور في حين أنشبت المصارف مخالبها في الودائع وحجبتها عن مالكيها بعدما استهلكت أصول مالية هائلة في حلقة الدين العام المتراكم وضاعف من وطأة الأزمة دوام الفراغ الحكومي وغياب أي جهد حقيقي لحماية الضحايا الفعليين للأزمة من الطبقات الوسطى والفقيرة.

يتمادى الإحباط والضياع السياسي في ظل تغييب حقيقة أن النموذج الاقتصادي المترنح هو أداة الهيمنة والمطلوب فعليا هو تحرير لبنان من تلك الهيمنة لبناء نموذج جديد بينما يسعى السيد الأميركي إلى تجديد النموذج القائم وتجديد دوائر نفوذه ومده بحقن الإنعاش على إيقاع الاضطرار للمساكنة مع المقاومة بعد نجاحها في إفشال المحاولات المتكررة لإغراق البلاد في دوامة اقتتال بغيض.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى