ماذا يريد الأميركي في لبنان ؟
غالب قنديل
منذ أمد بعيد أحكمت الولايات المتحدة ترسيخ حضورها المباشر ونفوذها السياسي في لبنان كرقعة نفوذ غربية مميزة بفعل موقع البلد الجغرافي السياسي الحساس الذي اكتسب اهمية قصوى مع تصاعد سطوة ودور المقاومة التي باتت مصنفة في جميع التقديرات الاستراتيجية الأميركية كمصدر رئيسي لزعزعة النفوذ الأميركي في منطقة الشرق العربي وبوصفها تهديدا وجوديا للدولة العبرية التي تحتل موقعا حاسما وبارزا في السياسات الأميركية للمنطقة.
انطلقت فلسفة الربيع العربي في التخطيط الأميركي من استطلاعات رأي ودراسات سياسية واقتصادية معمقة لواقع البلدان المستهدفة خلال سنوات وقد وجد المخططون في حصيلتها أن الهيمنة الأميركية في بعض مواقع النفوذ الخاضعة باتت مهددة بنتيجة استهلاك النخب الحاكمة لرصيدها الشعبي وعجزها البنيوي المتأصل عن تجديد سيطرتها السياسية مهما فعلت.
ارتأى الأميركي في توقيت معين أن تكوين نخب حاكمة جديدة سيطيل من عمر الهيمنة الغربية ويحمي السيطرة الاقتصادية والسياسية ويحتوي نزعة التمرد المتزايدة في صفوف الفقراء الساخطين ولذلك تم التخطيط لثورات الربيع التي قادت إلى تجديد الهيمنة الأميركية الغربية برموز ووجوه جديدة وكان نسيجها المختار من تنظيم الأخوان والبيرقراطية العسكرية وما يسمى بالمنظمات غير الحكومية أو بمنظمات المجتمع المدني التي رعتها الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا لسنوات وبعض التشكيلات السياسية الليبرالية واليسارية المقيمة والمهاجرة والنخب الأكاديمية المتأمركة وهذا هو الجمع الذي تحدر منه الحكام الجدد وبالانتخابات وسط طبل وزمر إعلامي صاخب على نطاق عالمي.
إذن فغاية الثورات الملونة في الاستراتيجية الأميركية تجديد الهيمنة اللصوصية للحلف الاستعماري الصهيوني في بلدان منطقتنا وليتذكر المتذاكون الحراكيون ان محمد مرسي وقع في السفارة الأميركية بالقاهرة تعهدا باحترام كمب ديفيد عشية انتخابه رئيسا بينما كانت رسالته المشينة لشمعون بيريز اول عمل رسمي قام به ولم يمنع ذلك الانصياع الولايات المتحدة من التخلي عنه عندما ضمنت تجديدا أشد ثباتا لسيطرتها من قلب النخبة العسكرية مع انفجار الغضب الشعبي مرة أخرى كما لم تزحزح التغييرات السياسية في تونس منظومة الهيمنة المحكمة لصندوق النقد الدولي وبيوت المال الغربية رغم حيوية الحركة النقابية ودورها الكبير في الانتفاضة التي أطاحت بزين العابدين بن علي وفي جميع تجارب الثورات الملونة استثمر الأميركيون نقمة متعاظمة على الفساد الذي ارتبط بسلوك عملائهم وبرعايتهم الوثيقة فالأميركي يتصرف مع فساد العالم الثالث كما تصرف في موضوع الإرهاب فيستخدمه لتمرير مخططاته ثم يجعل من القضاء عليه ذريعة لتدخلاته وحروبه.
ما يجري في لبنان ليس غريبا عن هذا السياق ومن الواضح أن ترنح النموذج الاقتصادي الريعي التابع وبلوغه درجة الانهيار الذي أجلته الجرعات المالية الخارجية طيلة سبعة عشرعاما يقابل بخطة اميركية انطلقت بتفعيل عوامل التصدع والجفاف المالي من خلال العقوبات لربط الانعاش المالي برزمة شروط تحكم قبضة الهيمنة على القرار السياسي من خلال إضعاف المقاومة وحلفائها والانقلاب على صيغ المساكنة السياسية التي قامت برعاية اميركية وبقبول واضح اميركي سعودي منذ حكومة الرئيس تمام سلام ومن يدقق يستطيع فهم خلفية تقديم خطب مناهضة الفساد على أي اولويات اخرى لاتقل اهمية تتعلق بالنموذج الاقتصادي الاجتماعي البديل وبالسيادة الوطنية والتحرر من الهيمنة وهي المسائل المغيبة قصدا وبانضباط شديد حتى من اليسار الحراكي بكل أسف.
خطة إخضاع لبنان لوصاية استعمارية كاملة اقتصادية ومالية وسياسية للنيل من المقاومة تحركت منذ 17 تشرين الأول ومن خلال التشغيل الأميركي لخيوط المازق الحكومي منذ دفع الرئيس الحريري إلى مفاجاة شركائه باستقالته ودحرجة جميع الخيارات القائمة على تجديد المساكنة التي تعمد الأميركيون إسقاطها بينما سعى الفريق المقابل إلى محاولة تجديدها واصطدم بتبني الحريري للمواصفات التي طرحها الأميركيون ورددتها الساحات الحراكية ثم توجت بالانقلاب الأميركي السعودي عليه عبر ترشيح شخصية دبلوماسية مجربة في خدمة الهيمنة الأميركية باشرت تدرجها في تلك الخدمة من الشراكة مع المفاوضين الصهاينة في صياغة اتفاق 17 أيار ومن خلال فريق الرئيس السابق أمين الجميل وليس غريبا أن تنطلق تسمية السفير نواف سلام كمرشح لتشكيل الحكومة من رئيس الكتائب النائب سامي الجميل ومعه النائب ميشال معوض ليظهر الترشيح بقوة خلف انقلاب رئيس حزب القوات على الحريري بتبني سلام للتكليف وفق ما قاله خلال مؤتمره الصحافي يوم أمس.
الهدف من فكرة حكومة التكنوقراط هو إحكام القبضة الأميركية وتحجيم حلف المقاومة وإبعاده إذا أمكن بتصعيد نخبة سياسية جديدة في البلد عبر استثمار محكم للانهيار الحاصل ومع اقتران الانعاش المالي بطلب الإذعان لشروط الهيمنة الاقتصادية والمالية والسياسية التامة وفي الساحات الحراكية صنعت شبكة الجامعات الغربية نخبا ورموزا جاهزة من التكنوقراط المرشحين للمناصب الوزارية كما تضم الخيم والمنابر الحراكية مئات المرشحين لخوض الانتخابات النيابية التي يستعجلونها لتغيير واقع النظام القائم بصورة تجدد الهيمنة الغربية وتمرر تنازلات لصالح الكيان الصهيوني في الترسيم البري والبحري .
ذلك هو المشروع الأميركي الفعلي الذي شبكت به منابر إعلامية وضعت بتصرفها اموال وقدرات هائلة لتطويع الشارع ولتهيئة الرأي العام وتوظيف نقمته في تحقيق الخطوات المقبلة.
مقابل كل ما تقدم ما زال الفريق الوطني يأمل بتجديد الشراكة التي انقلب عليها الأميركي وتنصل منها الحريري قبل صدمته بتخلي جعجع عنه ويستصعب الذهاب إلى خيار حكومة اكثرية لن تكون طريقها سهلة وبدون مصاعب بينما يوقد المخططون نار الفتنة للجم أي خطوات هجومية .وتبقى جميع الاحتمالات مفتوحة في صراع محوره موقع لبنان على خارطة التوازنات والمعادلات الإقليمية المتحركة في استقطاب جذري بين محوري المقاومة والهيمنة.