باصات الشغب وانهيار الرواية الافتراضية
غالب قنديل
ما جرى يومي السبت والأحد في وسط بيروت كان فاضحا وشكل خاتمة مفجعة للبيئة الافتراضية التي بنتها الشاشات المشبوكة ومواقع التواصل الاجتماعي عن الثورة المغدورة والانتفاضة المخطوفة ولم يبق من ركام الكلام إلا مصطلحات زائفة تلقى على مسميات لا تطابق المعنى المزعوم.
زعمت الرواية الإعلامية والسياسية ان “مندسين” مجهلي الهوية افتعلوا الصدامات مع قوى الأمن وحاولوا اقتحام المجلس النيابي لكن الحقيقة هي ان باصات قدمت من مدخل بيروت الشمالي تضاربت المعلومات عن عددها الذي تخطى العشرة في التقارير الإعلامية اوصلت مئات العناصر القادمين من عكار وطرابلس وجل الديب كما صرح بعضهم واللافت انهم كانوا منظمين ومجهزين بخوذ وعصي ومصممين على الاشتباك مع القوى الأمنية ومنهم فصيلة استفزازية أطلقت شتائم سياسية وطائفية وكلاما بذيئا ضد رئيس المجلس النيابي عشية الاستشارات في القصر الجمهوري لتسمية رئيس مكلف بتشكيل الحكومة.
لم يكن الشغب سوى عمل منظم ومخطط نجح بعض المراسلين في رسم ملامحه على خلفية الساحات والخيم شبه الفارغة التي غزتها مجموعات منظمة يتقدمها قادة يصدرون الأوامر ويوزعون الأدوار لكن اللغة الطاغية إعلاميا ظلت في علبة الرواية الافتراضية عن “ثورة وثوار” في حين لم تكن في وسط المدينة سوى الصدامات والاعتداءات والاستفزازات ورشقات حجارة وأعمال تخريب وتكسير اجتاحت الشوارع والأرصفة ودحرجت الزرع والشجر على وقع هتافات المتجمعين قرب بيت الكتائب في الصيفي وفيها سباب بذيء واستفزاز مقصود لسكان الخندق الغميق الذين تحركت القيادات الحزبية لضبطهم ومنعهم من إظهار أي رد فعل وسعت إلى كبت غضبهم لإفشال خطة استدراج الفتنة.
عبثا يحاول الواهمون والمراهنون حراسة شبح التغيير الذي تخيلوه لينعشوا رهانهم على ما جرى منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية في 17 تشرين الأول وظهر بالمقابل عدد من الطامحين يجاهر من حولهم بترشيحهم للمواقع الحكومية ويصفقون لخطبهم التي ظلت حبيسة الخيم ومنعت عن الشاشات المشبوكة التي طافت بمنوعات متأمركة تلهم مشغليها بفرص جدية لمحاولة إنتاج نخب مرشحة لتجديد الهيمنة إن استطاعت اختراق معادلات التأليف الحكومي بانتسابها إلى الحراك المخطوف.
واقع اختطاف الفرصة بات محكما وظهرت القوى الراجحة في قلب الخليط الهجين المتنافر وهي تضم جناح السلطة المكون من ثلاثي المستقبل والقوات والتقدمي ومعه مجموعات مشبوكة من الجامعتين الأميركية واليسوعية في صلبها زمرة التطبيع التي أحرقت خيمتها ومنعت من العودة.
أما المجموعات الحراكية التي تعد بالمئات تحت عناوين المجتمع المدني وبيافطات مختلفة فقد ذابت معها في هيئات مشتركة أحزاب صغيرة وكبيرة تواجدت منذ البداية في الساحات بحثا عن رصيد مضاف سياسيا وشعبيا والأكيد ان حصادها الفعلي لايقارن بما غفلت عنه من خسائر لحقت بها بعد تحولها إلى كومبارس في مسار يقوده آخرون هم من يضع الشعارات ويرسم الخطوات ويدير التوظيف السياسي للتحركات وحيث حرم هؤلاء حتى من إرواء شبقهم الإعلامي على الشاشات المشبوكة التي ركزت على استضافة الشخصيات المنتمية إلى الطيف المتأمرك تحت مسمى الناشطين والخبراء فإلى جانب هذه المنظومة السياسية الهجينة وفي قلبها تصدرت مكانة قيادية طاغية الشبكة الإعلامية التي تعمم الأخبار والروايات وتطلق الصفات وتدير بنقلها الحي تصنيع احداث وتقود منصات تعبئة وتحريض.
المؤشر النافر كان اعلان العديد من الأشخاص المشاركين أنهم تحولوا عن سلمية التحرك وباتوا مصممين على خيار العنف بادعاء حق الدفاع في وجه قوى الأمن والجيش التي تحملت الكثير من الاستفزاز والتحرشات قبل استخدام القنابل المسيلة للدموع لصد محاولات اقتحام المجلس النيابي بمجموعات الشغب المنظم التي تصدرت الحشد وكانت ذروة التقديرات أنه ضم ألفا وخمسمئة شخص.
عودة قطاع الطرق كانت هي بصمة المشهد اللبناني الإجمالي في نهاية أسبوع حفل بخلط الأوراق السياسية بينما ظلت حالة الانهيار خارج أي نقاش أو معالجة وقد تركزت الطرقات المقطوعة في مواقع ومناطق تشي بهوية الفاعلين في البقاع والجبل والساحل والشمال.
وبينما يتواصل الانقلاب الأميركي فصولا يحضر إلى بيروت السفير ديفيد هيل في توقيت انطلاق استشارات التكليف للتذكير بدفتر الشروط الأميركي الذي ينص على الاتيان بحكومة مطواعة سياسيا تستجيب للضغوط في الترسيم الحدودي وترتهن البلد واقتصاده وماليته العامة لوصاية وتوصيات صندوق النقد الدولي التي تتضمن وفقا لبيان الخبراء الصادر في 11 تموز الماضي رفع الرسوم والضرائب وصرف موظفين تحت عنوان ترشيق الإدارة وصولا إلى تلزيم الخدمات العامة لشركات اجنبية ومحلية تتلهف لصفقات مغرية بفعل الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي كما فعل خبراء الصندوق في بلدان عديدة قبل لبنان.