حقائق كشفتها الأحداث
غالب قنديل
رغم صخب الأحداث اليومية وقسوة الظروف الحياتية التي تثير قلق اللبنانيين من الفقراء ومتوسطي الحال ورغم الاضطراب السياسي الكبير المهيمن في البلاد ومأزق ترميم السلطة السياسية التي صدعها انقلاب اميركي متقن الإعداد والتحضير يحتاج البلد بعد كل ما جرى إلى نفض غبار الكسل الفكري والسياسي وترك اللهاث خلف الحدث والجمود عند تصورات نمطية مسبقة بقوة العادة او التعصب لموقف اوتقدير واستهوال التراجع أو تعديل التوجه بينما تفرض المرحلة الاعتراف بضرورة التفكير النقدي المتحرر من التعصب الذاتي بشجاعة لابد منها في المنعطفات.
اولا فلنعترف ان انفجار الغضب الشعبي الذي حرك انتفاضة جماهيرية كبرى دامت لبضعة أيام جاء داهما ومفاجئا لسائر الأطراف السياسية الوطنية سواء المشاركة في الحكومة او خارجها وقد اندفعت في اجتهادها بالمفرد لصياغة مواقفها وطريقة تعاملها فانقسمت واقعيا إلى تكتلين أساسيين الفريق الذي يضم حزب المقاومة وحلفائه المشاركين في السلطة واطراف أخرى معدودة من خارجها وهذا الفريق رغم انحيازه الواضح إلى العديد من المطالب والشعارات التي رفعت في الساحات وموقفه الناقد للنموذج الريعي التابع الذي انشاته الحريرية بعد الطائف اعتبر ما جرى بعد الأيام الأولى محاولة اختطاف للانفجار الشعبي بهدف توظيفه في توليد قوة ضاغطة لفرض انقلاب أميركي على معادلة القرار وقدم حشدا من الوقائع والمعطيات التي تأكدت حقيقتها لاحقا بعد استقالة رئيس الحكومة.
ثانيا الفريق الوطني الذي يضم قوى واحزابا ومجموعات وأفرادا نزلوا إلى الساحات الحراكية انطلاقا من الرهان على عفوية الانفجار الشعبي وكان حصادهم بعد الأسابيع التي انقضت دون مستوى الطموحات فقد تاهوا في خلطة ممسوكة الخيوط وحجب حضورهم الفعلي في الساحات والخيم والشوارع بتطويق إعلامي مقصود نفذته القنوات المشبوكة التي عومت بالمقابل اجنحة السلطة المتامركة وتشكيلات حراكية معروفة الهوية والارتباطات الخارجية بعد تحول الانتفاضة إلى حراكات مناطقية وحزبية تكشفت بعض هوياتها في قطع الطرقات ومع انحسار التظاهر إلى تجمعات صغيرة متنقلة تعمل منصات الإعلام المشبوكة على تضخيمها لتصفية حسابات سياسية وتحويلها لنقطة جذب من خلال التغطية الحية وبالطبع سعى هؤلاء إلى التعبير عن رفضهم التعرض للمقاومة التي انتقدها بعضهم بقسوة عندما بدأت تظهر امامهم حقيقة ما يدور في ظل عجزهم المزمن عن التوحد في صيغة عمل مشترك تجمعهم بينما قبلوا العناوين الملتبسة في العباءة الحراكية الممسوكة.
ثالثا إن منطق القائلين بخطف الانتفاضة وتجييرها ينطوي على اعتراف ضمني بفشل وإخفاق كبيرين لجميع صيغ العمل الوطني والشعبي التي اعتمدها حلفاء المقاومة في البلد منذ الانتخابات النيابية وبالتحديد بعد فرط حلف الثامن آذار وهو الحلف الذي التقى منذ قيامه على مضمون الخيار الوطني التحرري بتبني المقاومة وبالتمسك بالعلاقة والشراكة مع الشقيقة سورية والتصدي للهيمنة الاستعمارية الصهيونية في المنطقة .وكان المفترض تحويل هذا التحالف إلى جبهة حقيقية بموازاة صيغة عمل حزب المقاومة في المعادلة الفوقية للسلطة من خلال الثنائي الشيعي وعبر التحالف مع التيار الوطني الحر. فالجبهة الوطنية الشعبية ببرنامج شامل للخلاص والإنقاذ الوطني كان يمكن ان تلعب دورا أبعد من مجرد دعم المقاومة واحتضانها بتوليد حركة شعبية عابرة للطوائف والمناطق تتصدى للعقوبات الأميركية وللوصاية الأميركية التي تكيف معها حلف المقاومة بحكم المساكنة السياسية الحكومية وانطلاقا من مبدأ درأ مخاطر الفتن المذهبية والطائفية.
كان ممكنا ملاقاة دور حلف المقاومة الحكومي بفرض ضغط شعبي وطني يحاصر الفريق التابع للهيمنة في السلطة ويرفع راية تصحيح المساكنة التي ظلت مختلة وغير متوازنة وتعزز اختلالها بقوة بعد بيان النأي الذي اعقب الإفراج عن رئيس الحكومة من محبسه السعودي وطبق النأي احاديا اتجاه سورية والعراق وإيران وعن الشرق الكبير لصاح الحجر على لبنان في قبضة الهيمنة الاستعمارية الغربية.
رابعا قيام الجبهة الوطنية هو المهمة المركزية الراهنة لقيادة مرحلة جديدة من النضال التحرري في لبنان والبرنامج الانتقالي لمثل هذه الجبهة هو خطوط وعناوين الخطاب الأخير لقائد المقاومة والغريب أن يبقى التعامل معه كنص بعيدا عن التحول إلى مادة للنقاش والحوار في كيفية تحقيقه بعيدا عن اجتهادات التكتيك السياسي الظرفي المتعلقة بتشكيل الحكومة.
إذا كان بعض الوطنيين يجدون هذا الخيار مكلفا ودونه صعوبات فبديله هو الخضوع للهيمنة ولذلك فتعبئة الناس بمضمونه والاستعداد لتحمل كلفة تحقيق الخلاص هو المهمة اليومية لأي سياسي او إعلامي تحرري مقاوم ويجدر بسائر الوطنيين المؤمنين بالمقاومة والمستعدين للنضال دفاعا عنها هو منطلق البناء الجديد لنمط عيش جديد متحرر من الهيمنة على انقاض النموذج الريعي الاستهلاكي التابع الذي تصدع والسباق الفعلي هو بين هذا الخيار وبين محاولة تجديد الهيمنة وإحكامها سياسيا واقتصاديا بوهم المساعدة الغربية في الخروج من الانهيار الكارثي الذي حل بلبنان والتي تروج عنها صورة خادعة ومضللة.