ثلاث فرضيّات حكوميّة حريريّة لا تجتمع: ناصر قنديل
– مَن يدقق في التصور الذي يطرحه رئيس الحكومة المستقيلة سعد الحريري كمرشح وحيد لتشكيل الحكومة المقبلة سيكتشف أنه محاولة انتقائيّة لتجميع ميزات في ثلاث فرضيات حكومية يصعب الجمع بينها، ويسهل البحث عن تسوية بينها إذا توافرت نيّات عدم إطالة عمر الفراغ أملاً بتحسين الشروط، لأن في ذلك تدفيعاً للناس وليس للخصوم ثمن تحقيق مكاسب سياسية على ظهر أوجاعهم. وكما دلت الأيام التي مضت على الفراغ تبدو الأطراف الرئيسية في الكباش السياسي على درجة متساوية من الجهوزية لتحمّل نتائج الوقت القاتل، وليس الوقت الضائع، الذي تزداد كلفته على الناس كلما مر منه المزيد بلا تحقيق تقدّم نحو ولادة الحكومة العتيدة.
– الفرضية الأولى التي ينطلق منها الرئيس سعد الحريري، هي فرضيّة حكومة تكنوقراط، مستقوياً بطلب الساحات لحكومة لا تضم حزبيين وسياسيين وتتشكل من تكنوقراط اختصاصيين، تحظى بثقة الشعب. وهذه الفرضية متكاملة لا يمكن أن يأخذ الرئيس الحريري ما يعجبه منها ويرمي الباقي. فالفرضيّة منبثقة من شعار “كلن يعني كلن” الذي استقال الرئيس الحريري انطلاقاً مما قاله في بيانه التوضيحي للعزوف عن تولي رئاسة الحكومة، إنه يدرك أن الشعب يطالب بالمحاسبة وإنه في طليعة الذين تجب محاسبتهم. والرد على تظهير التناقض بين السعي لحكومة تكنوقراط، والسعي لترؤسها، بالقول إن الحريري لا يمانع بأن يقوم سواه بالمهمة، مردود عليه، لأن الحريري يعلم وكل الناس تعلم، أن تعامل الحريري مع معادلة، ليس أنا بل أحد آخر، ترجم واقعياً بقرار خفي أفضى لإسقاط كل مرشح آخر وصولاً لفتوى من دار الفتوى بتسميته رئيساً وحيداً للحكومة. ومعلوم أن الحريري إن لم يكن وراء هذه الفتوى، فهو يدركها كتعبير عن فرضية ثانية تحكم تشكيل الحكومات لها علاقة بتوازن الرئاسات، التي تمثل طوائفها بمقدار ما تشكل مناصب سياسية أو مسؤوليات دستورية. وعلى الحريري أن يصارح الناس إذا كان احترام معادلة توازن الرئاسات طائفياً عاملاً محدداً وحاكماً في تسمية شخص رئيس الحكومة، بأنه ملزم بترؤس الحكومة من هذه الزاوية ولا يمكنه التخلي عن هذه المسؤولية وقبول تسمية مرشح سواه لهذا الاعتبار.
– الفرضية الثانية التي ينطلق منها الرئيس الحريري هي التي ينطلق منها لتثبيت تسميته مرشحاً وحيداً لرئاسة الحكومة، وهي معادلة توازن الرئاسات التي تقول بأن يتولاها الأشد تمثيلاً في طوائفهم، ورفض مقارنة توليه رئاسة الحكومة بتولي رئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل حقيبة وزارية، كرئيسين لتيارين سياسيين يمثل كل منهما أغلبية في طائفته، ويملكان تمثيل كتل نيابية كبرى. فالمعادلة التي ينطلق منها الحريري هي مقارنة توليه رئاسة الحكومة، بالتوازي مع تولي الرئيس ميشال عون لرئاسة الجمهورية والرئيس نبيه بري لرئاسة المجلس النيابي، لكن الثبات على هذا التوازن وجمعه مع صيغة حكومة تكنوقراط يسقط عندما يطلب الحريري لحكومة التكنوقراط التي يقترحها، صلاحيات استثنائية تشريعية تؤخذ من طريق المجلس النيابي، ويطلب إطلاق يده في تشكيلها واعداً بمراعاة من ترشحهم الكتل النيابية من ذوي الاختصاص، بينما توازن الرئاسات يملي عليه التسليم بتولي رئيس الجمهورية شريكه في تشكيل الحكومة بالتوقيع الإلزامي، اختيار الوزراء المسيحيين في الحكومة، فهل يرضى الحريري بترؤس حكومة تكنوقراط يسمّي رئيس الجمهورية نصف أعضائها ومن التكنوقراط، وفقاً لمبدأ المناصفة، ويسمّي رئيس مجلس النواب ربعها، ويكتفي هو بتسمية الربع الأخير منها، ولا تتخطّى توازن الرئاسات بطلب الصلاحيات؟
– يبقى للحريري فرضية ثالثة، وهي التي يقول من خلالها لشركائه الذين يريد إقصاءهم عن الحكومة تلميحاً وتصريحاً، دعوني أشكل الحكومة وأقُد البلاد نحو الخلاص من خلالها، وبيدكم الغالبية النيابية تسحبون الثقة من الحكومة متى شئتم. وهذه الفرضية تنطلق دستورياً وسياسياً، من اعتبار صحيح لدور الانتخابات النيابية ونتائجها في فرض التوازنات التي تتشكّل على أساسها الحكومات. ومشكلة الحريري أنه يريد تشكيلة حكومية ينقلب من خلالها على نتائج الانتخابات، بإبعاد الأغلبية عن المشاركة، ويحتكم لنتائج الانتخابات بالاعتراف بقدرة الأغلبية على المساءلة والمحاسبة في المجلس النيابي، لكن الحريري يعلم أن البلاد لا تحتمل لعبة تبديل حكومات، ولا تحتمل الدخول في متاهات كالتي نحن فيها بعد ستة شهور أو بعد سنة وأن المطلوب حكومة برئاسته تستقر بالبلاد وتسير بها نحو التقدّم خلال السنوات الباقية من عمر عهد الرئيس ميشال عون، بروح إيجابية، وليس بعقلية التحدّي، “امنحوني الحكومة وحاسبوني”. وثمة طريق واحدة للسير بهذه الفرضية وهو أن يسعى الحريري لتشكيل أغلبية جديدة، ببرنامج متفق عليه، وتركيبة تضمن تطبيقه، متفق عليها أيضاً، وعندها يمكن القول راقبوني وحاسبوني.
– يستطيع الحريري أن يجعل الأيام الفاصلة عن الاستشارات النيابية فرصة لاستيلاد حل عملي ومقبول، بقبول الجمع بين الصيغ الثلاث لكن بغير طريقته، التي تنتقي ما يناسبها من كل صيغة، بل بطريقة تدمج المتناسب مع الواقع والدستور من كل منها، فيصارح اللبنانيين بتمسكه برئاسة الحكومة من ضمن معادلة توازن الرئاسات، ويصارح الرئاستين المعنيتين بتفضيله استيلاد الحكومة في كنف تعاون رئاسي بدلاً من تمثيل الكتل. وهذا يستدعي القبول برعاية رئاسية مسيحية للحصة المسيحية ورعاية رئاسية إسلامية للحصة الإسلامية، ومن التكنوقراط، وتقبّل نتائج هذه الرعايات، بما فيها ما سينتج من خيارات الرئاسة الأولى من التكنوقراط، ومن تمسك الرئاسة الثانية بتمثيل حزب الله كاستثناء خاص بالمقاومة، ابتكره الرئيس رفيق الحريري يوم دعا لاحتفاظ قناة المنار بحق البث كقناة للمقاومة خارج معايير ترخيص سائر القنوات التلفزيونية. وللحريري أن يعرض هذا التصور للرعايات الرئاسية على الكتل النيابية التي قد تتشكّل من بينها غالبية جديدة تواكب الحكومة الجديدة.