ملاحظات منهجية في نقاش مستحق
غالب قنديل
أولا هل حقا ما زال ممكنا الكلام عن انتفاضة شعبية مستمرة بعدما تكشفت ملابسات الخطف المحقق وهويات الخاطفين وبعد انكشاف المشروع الفعلي للانقلاب السياسي الذي نجح في خطف الانتفاضة منذ أيامها الأولى لخدمة هدفه المركزي المتمثل بتأبيد الهيمنة الاستعمارية الأميركية وتجديد صيغتها السياسية بعد تعديل التوازنات على حساب المقاومة المطروح جديا خطة أميركية سافرة لتجريدها من الحلفاء وخنقها سياسيا؟
ثانيا كيف يمكن فصل ما جرى عن تعبيراته السياسية وشعاراته المكرسة في الساحات والتظاهرات وما تجسده كوسيلة لتثبيت الهيمنة الأميركية ولإلحاق لبنان بمحور الهيمنة من خلال تعديل التوازن السياسي الداخلي للسلطة حتى لو اعترف المخططون الأميركيون بصعوبة الانقلاب على المساكنة التي يريدونها إذا أكرهوا عليها بتوازن جديد وبمعادلة جديدة لصالحهم على حساب المقاومة التي بالكاد حظيت سابقا باعتراف شكلي في عبارات مواربة تضمنتها البيانات الوزارية مقابل تكيفها مع النظام الريعي التابع وخياراته الاقتصادية الاجتماعية ؟ فكيف الحال في حكومة يغرقها التكنوقراط الذين يجري العمل على اختيارهم على مساطر الهيمنة الأميركية الغربية ومذاهبها الاقتصادية والمالية التي ترسمها وصفات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ؟
ثالثا هل يمكن الاستنتاج ان النظام السياسي الطائفي الريعي سقط فعليا بمجرد وقوع الانهيار المالي والاقتصادي وحالة الفراغ الحكومي والارتباك السياسي وعجز أطراف السلطة عن التفاهم على تشكيل حكومة جديدة بسبب الضغوط والتدخلات الأميركية ؟ وهل يصح هذا الاستنتاج مع استمرار التموضع الطائفي سياسيا وشعبيا رغم الماكياجات والأقنعة المدنية المزعومة لضرورات التسويق والخداع البصري؟ وهل يمكن الزعم أن القاعدة الاجتماعية السياسية للطائفية قد سقطت بينما ظهرت معالمها وترددت أصداء عصبياتها لدى جمهور المقاومة الذي يفترض أنه منحاز لخيار وطني جذري خرج للدفاع عن رموزه؟
تفسير ما جرى باعتبار السلوك الطائفي هنا او هناك مجرد رد فعل على سلوكيات طائفية مقابلة يؤكد أن التموضع الطائفي والمذهبي في المجتمع باق عموما على حاله رغم كل ما شهدناه من احتفاليات الوحدة الوطنية وخطبها التي ترددت في الساحات وعلى الشاشات مع الأخذ بالاعتبار لبعض البوادر الصادقة التي خرجت خوفا من شبح العنف الأهلي وهي تستحق الانتباه والبناء عليها قبل أن تبددها طاحونة الأحداث.
رابعا ما حصل كان ثورة ملونة محكمة التحضير والإعداد انساقت إليها في توقيت انفجار الغضب الناتج عن تصاعد الضغوط وزحف المخاطر جماهير الطبقة الوسطى المدينية الساخطة والمرعوبة من شبح الانهيار وهي التي أعطت نبضها وتلاوينها للساحات في الأيام الأولى وكانت في الوقت عينه وعاءا اجتماعيا لمجموعات ممسوكة إلى جانب حشودها العفوية من الطلاب والنساء والمهنيين خصوصا في مدينتي بيروت وطرابلس وهذه الشرائح تتميز تاريخيا بمزاج عام ليبرالي ناقم على فجور وبطر النظام بقواه الرئيسية الباذخة مع انها كانت القاعدة الاجتماعية الأهم للمشروع الحريري منذ انطلاقه وقد بدا تيار المستقبل في هذه الأزمة منكفئا نحومعاقله في المناطق الريفية من البقاع والشمال وبعض الأحياء الشعبية الفقيرة في بيروت وطرابلس وصيدا حيث تحصن بمعاقل نفوذه القائم على عصبية الولاء المذهبي الريعي.
خامسا شهدنا عملية خطف سياسية للانتفاضة نفذها جناح رئيسي من النظام الريعي التابع مكون من ثلاثي المستقبل والتقدمي والقوات الذين أعدوا عدتهم جيدا للحدث وتحضروا له بكوادر مدربة على إخفاء هوياتها وبأقنعة جرى تلوينها بإتقان وبشعارات سياسية تركوا المبادرة إلى طرحها لمنصات الحراك المشبوكة بالمشغلين الرئيسيين المشتركين بين هذا الجناح من النظام ومنظمات غير حكومية واحزاب اخرى من خارج السلطة في ظل الفراغ السياسي وسلبية الرهان على الوقت في ضفة الحلف الوطني الذي اكتفى بمواصلة الجهود اليائسة وغير المشروطة لتجديد المساكنة في السلطة ولم يطرح تصورا حول برنامج الإنقاذ الذي يفترض اختيار حكومة سيادية جديرة بتحقيقه وفقا لأطروحة متكاملة عرضها قائد المقاومة في خطابه الأخير.
سادسا مما لاشك فيه ان الانتفاضة العفوية المغدورة التي عاشت لأيام قليلة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة حملت آمالا كثيرة لشرائح من الشباب الساخط من أبناء الطبقات الوسطى وفتحت سياقات جديدة في الوعي الشعبي العام بعناوين عديدة وكونت لائحة من المطالب والتطلعات التي يستحيل احتواؤها او تحقيقها دون فرض بعض التغييرات التي طرحت بقوة على صعيد مكافحة الفساد وتأمين فرص العمل وكبح الانهيار الاقتصادي الاجتماعي والحد من آثاره لكن ما خلا بعض ما رددته المجموعات الحراكية المحدودة غابت عن الساحات والشوارع وسائر الحشود الخطوات التي لابد منها لتحقيق ذلك وفي مقدمها الانتقال من النظام الريعي إلى اقتصاد منتج جديد والتوجه شرقا لتوسيع آفاق وفرص النمو الحقيقي المنشود فلم تصدر كلمة واحدة في هذا الاتجاه حتى على ألسنة وطنيي الحراك الذين احجموا عن المجاهرة بالدعوة الواضحة إلى إسقاط العقوبات الأميركية التي كانت في صلب توقيت الانهيار ومارسوا تكيفا التحاقيا بمن يمسكون بدفة القيادة عبر شعاراتهم وبرامجهم وتماهى بعضهم أحيانا مع شعارات تستهدف حلفاء المقاومة.
سابعا الرئيسي في هذه اللحظة السياسية وفي سياق العمل لبلورة حركة شعبية تحمل برنامج التغيير الحقيقي هو الانطلاق مباشرة من خيار التمسك بالمقاومة والدفاع عنها كخيار تحرري ومنع الإخلال بمعادلة القرار السيادي التي يراد إسقاطها والانقلاب عليها لتعرية المقاومة سياسيا ووطنيا والالتزام بالنضال لإسقاط الهيمنة الأميركية ورفض وصايتها وهذا يقتضي قيام جبهة وطنية شعبية للتحرر من الهيمنة ولإعادة البناء الوطني تكون المقاومة في صلبها.
ثامنا إن ماجرى أكد صحة ما سبق أن أثرناه نقديا حول الخلل في منهجية إدارة الصراع والتعامل مع الواقع السياسي منذ الانتخابات النيابية الأخيرة من خلال فرط تحالف الثامن من آذار بدلا من تحويله إلى جبهة سياسية وبلورة كتلتها النيابية كقوة سياسية وشعبية منظمة عابرة للطوائف والمناطق تمثل حضنا للمقاومة ولإرادة التحرر الوطني من الهيمنة الأميركية وتتصدى للعقوبات بدلا من نهج التكيف معها والصمت عليها لقد أدى هذا الخلل فعليا لحصر حلف المقاومة في رقعة ضيقة من خلال صيغة الثنائي الشيعي وحرمها من طيف حضنها الواسع الذي انصرفت مفرداته الحزبية والسياسية الأخرى إلى الاجتهادات المنفردة وسط عجزها الفاضح عن بلورة صيغ للعمل المشترك فيما بينها وهي علة مقيمة لم يكن قادرا على تخطيها سوى صيغة تحالفية عريضة تشكل المقاومة عامودها الفقري في ظل هامشية الواجهة الشكلية التي يمثلها لقاء الأحزاب الوطنية الذي لم يرق إلى مستوى التشكيل الجبهوي الفاعل طيلة السنوات الماضية.
تاسعا كان قيام مثل هذه الجبهة سوف يساهم بالضرورة في مضاعفة الفرص لفرض إطار وطني للتصدي مبكرا للعقوبات الأميركية بدلا من نهج التكيف وكذلك للضغط من أجل صيغة متوازنة للمساكنة في السلطة على صعيد بنية النظام الريعي بانتزاع تدابير ترسخ خيار دعم القطاعات المنتجة والانفتاح على الشرق الكبير انطلاقا من سورية والعراق وإيران بالتوازي مع علاقات لبنان المتينة بالغرب والخليج وقد أضعفت تلك الاخطاء المنهجية خيار المقاومة شعبيا وسياسيا ومنعت الفريق الوطني من امتلاك الأدوات لملاقاة انفجار الغضب الشعبي ببرنامج واضح وبآليات عمل منظمة شعبيا وسياسيا على الصعيد الوطني العام بدلا من انطواء القوى المكونة للتحالف الوطني العريض في زوايا العمل والتعبير الممكن من المنصات الطائفية والمناطقية ولو توافرت تلك الجاهزية لما وجدنا جميع الوطنيين بمن فيهم الفريق الوطني المشارك في السلطة محكومين بحالة من الارتباك والسلبية أما مفاجأة الانفجار الاجتماعي والسياسي للنظام.
إن مسار التأزم والتوتر الاجتماعي السياسي مرشح للتصاعد في الفترة المقبلة بسبب شح الريوع وتقلص التحويلات خصوصا بعد تصدع سمعة القطاع المصرفي وجميع التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مقيمة ومتأصلة وهي قد تجدد بوادر التمرد والاحتجاج العفوي وهو أفق مفتوح يتطلب حث الخطى في بلورة البرنامج وبناء الجبهة الشعبية الوطنية المؤهلة لقيادة المرحلة المقبلة.