الارتباك في السلطة والحراك بدل تنظيم التساكن: ناصر قنديل
– منذ اليوم الأول لاندلاع الغضب الشعبي دَعَوْنا لتنظيم التساكن السلميّ، القائم على الاعتراف بالعجز المتبادل للحراك والسلطة عن تحقيق انتصار كامل على الآخر، وقلنا إن الحراك قادر على بلوغ أهدافه ضمن خطة متدرّجة للضغط على المؤسسات الدستورية لتلبية طلباته بالأولوية، كقرارات حكومية وقوانين تشريعية، سواء في الشق المطلبي الاقتصادي والاجتماعي، وهي كثيرة، أو في الشق المحوري الرئيسي وعنوانه مكافحة الفساد، أو في الإصلاح الجذري السياسي والاقتصادي والمالي، من قانون الانتخابات، إلى قانون ضريبي جديد، وسياسات اقتصادية مالية جديدة. وقلنا إن السلطة مدعوة لعدم الاستهتار والتهاون بما جرى، وعليها اتخاذ العبر والتجاوب مع طلبات الشعب، والإصغاء والجدّية، لأن الانهيار هو الآتي ما لم يتم ذلك. والانهيار سيعني ضياع كل شيء وسقوط النظام المصرفي والمالي والسياسي والذهاب نحو الفوضى. وقلنا إن من يرفض التساكن الإيجابي بين السلطة والحراك سيتحمّل مسؤولية الجمود والمراوحة وبالتالي تسريع الانهيار والفوضى.
– هبطت على الحراك نظريتا، قطع الطرقات والدعوة لاستقالة الحكومة، ووجدت لها تجاوباً أو تساهلاً في السلطة، وجاءت استقالة الرئيس سعد الحريري، لتجعل طريق التساكن صعباً تمهيداً لجعله مستحيلاً، وتحوّل الحراك من كونه قوة دفع نحو التقدّم، كما كان الحال بعد إقرار الورقة الإصلاحية، إلى أداة في اللعبة السياسية الداخلية والخارجية، بمعزل عن النيات الطيبة، وصار الحراك معنياً بالضغط لتسريع الاستشارات النيابيّة. وهذا يعني عملياً تعزيز الوضع التفاوضي لفريق 14 آذار بوجه فريق 8 آذار، القائم حول شكل الحكومة كمقدّمة لتسمية المرشح لتشكيلها، وبدا بوضوح بعد كلام الدبلوماسيين الأميركيين جيفري فيلتمان وديفيد شينكر أن هذا التوظيف تتم متابعته والاستثمار عليه من الأميركيين، الذين وضعوا عنواناً لما هو مطلوب، إضعاف العهد والتيار الوطني الحر كعقاب على وقوفهما مع المقاومة، التي أقرّا أن مسألة سلاحها فوق طاقة الحراك وطاقة الجيش، داعين لوقف المواجهة، والعودة لتركيب حكومة بلا شرط إبعاد حزب الله عنها، وبلا التمسك برئاسة الحريري لها، والدعوة لدول الخليج وأوروبا لتمويل النظام المصرفي منعاً للانهيار والفوضى لأن واشنطن تراهما طريقاً ليربح خصومها الإقليميون والدوليون.
– اليوم يعيش الحراك الارتباك. وهذا واضح من تراجع الزخم الشعبي، ومن استبدال الدعوات للحشود تحت عناوين سياسية ومطلبية بفعاليات ترفيهية، ورغم ما بدا من تماهٍ بين الحراك والرئيس الحريري في الشأن الحكومي، من قبول ضمني بشخص الحريري وتوافق على حكومة تكنوقراط، ورفع لسقف الضغط ضد الوزير جبران باسيل وهو ما اعتبره جيفري فيلتمان أهم إنجازات ما شهده لبنان من موقع المواجهة مع المقاومة، تسبب الموقف الأميركي والأوروبي بإرباك الرئيس الحريري أيضاً، حيث لم يعد مهماً من يترأس الحكومة ولا من تضمّ. وهذا يعني أن الحريري نفسه لم يعد شرطاً غربياً، وأن إبعاد حزب الله لم يعُد شرطاً أيضاً، وأن لملمة الوضع باتت هي المطلوبة منعاً للأسوأ، لكن الحريري والحراك باتا أسيرين لحكومة بدون باسيل على الأقل، والأميركي يرحّب بهذا. وهذا صار ثمنه بقاء الحريري خارج رئاسة الحكومة، والغرب لا يمانع بذلك.
– المخلصون للشعب والوطن في الحراك وجدوا طريقهم للظهور إلى الواجهة في ظل الإرباك الذي يعيشه الفريق الآخر في الحراك، فصعدوا إلى عوكر مستنكرين التدخل الأميركي السافر في الوضع اللبناني، وخرجوا نحو محميّات تنتهك الحقوق السيادية للدولة في أملاكها البحرية، فقرّر الآخرون الدعوة للإضراب وفرضه بالقوة عبر قطع الطرقات، تحت شعار الاسشارات النيابية، أملاً بفرض تسمية غير مشروطة للرئيس الحريري لتشكيل الحكومة، ومصير قطع الطرقات والإضراب القسري لن يقرر فقط مستقبل التوازنات في الحراك، بل أيضاً مستقبل الحكومة، والأهم مهابة الجيش والقوى الأمنيّة، وقدرتهما وجديتهما في حماية الحريات وفي مقدمتها حرية التنقل، وعسى ألا يكون ثمة خطر على الأمن تنتجه العودة غير البريئة لقطع الطرقات، وعسى أن تثبت القوى العسكرية والأمنية، ويجب أن تبقى ثقتنا بأن تثبت، أن أولوياتها وطنية بعيدة عن السياسة.
– الاقتراب من تشكيل الحكومة مهما كان شكلها، سيعني مرحلة جديدة، لو اضطر الحراك لرفضها بسبب صعوده شجرة التصعيد والسقف العالي الذي رفعه، وربما تعود فرصة التساكن الإيجابي مرة أخرى، وتكون العبرة على الضفتين كافية لعدم الوقوع في المحظور.