قراءة في أبعاد قمة ترامب واردوغان د.منذر سليمان
واشنطن –في ظل إجماع المؤسسة الأميركية الحاكمة بمعاقبة تركيا ومناشدتها الرئيس ترامب التراجع عن دعوته نظيره التركي، زار الرئيس رجب طيب اردوغان البيت الأبيض، 13 الشهر الجاري، وفي جعبته جملة ملفات ثنائية وإقليمية، من بينها مسألة العقوبات المفروضة عليه بعد غزوه للشمال السوري (9 أكتوبر الماضي) ومطاردة وحصار الكرد، وصفقة منظومة الدفاع الجوي الروسية، اس-400 ومجمل العلاقة الودية مع روسيا، وترتيب المسرح بعد مقتل أبو بكر البغدادي.
أغلبية من قيادات الحزبين في الكونغرس أعربت عن معارضتها الصريحة للزيارة وناشدت الرئيس ترامب الغاءها في مذكرة رسمية ترجمة لما يعتبرونه أن سياسة تركيا الراهنة تتراوح بين كونها “أسوأ صديق أو أفضل عدو لأميركا.”
للتوقف عند قرار ترامب بمعاندته قيادات حزبه بالدرجة الأولى نستطيع القاء الضوء على مسألتين مغيبتين عن التداول والمتابعة المطلوبة: دوافع كل من ترامب واردوغان للقاء في الموعد المحدد سلفا، والمتغيرات التي أدخلها ترامب على بلورة السياسة الخارجية الأميركية لا سيما اقتدائه بإرشادات وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر.
بداية بإمكاننا رصد حيز التشابه بين إصرار قيادات الكونغرس على معارضة تركيا – اردوغان، وهي التي عادة تسترشد وتمتثل لتوجهات اللوبي “الإسرائيلي،” وبين معارضة “إسرائيل” لتركيا نظراً لتقويضها استثمار الأولى التاريخي بالقيادات الكردية وتشجيعها على الانفصال، في العراق وسوريا تحديداً.
في البعد الكردي تحديداً، برزت نداءات متعددة داخل الكيان “الإسرائيلي” تنديداً بالغزو التركي للشمال السوري وملاحقة التنظيمات الكردية، مجمعة على مطالبة قياداتها السياسية “بالتصدي لتركيا من أجل حماية حلفائنا الكرد .. الذين عقدنا معهم تحالفاً استراتيجياً منذ عقد الخمسينيات ودعمناهم عسكرياً وسياسياً،” في إشارة إلى مبدأ “التحالف التاريخي والاستراتيجي مع القوى غير العربية في الشرق الأوسط،” الذي أرساه ديفيد بن غوريون.
وفي مطلع عام 2017، أعلن رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو عن دعم حكومته “إنشاء دولة كردية مستقلة” في الشمال السوري.
أما قادة الكونغرس، فقد استنهضواً مشروعاً طالما بقي حبيس الأدراج طيلة العقود الماضية وصادقوا على قرار يعترف بالمجزرة الأرمنية على أيدي الإمبراطورية العثمانية، بالأغلبية المطلقة في مجلس النواب، 29 أكتوبر، وهي المرة الأولى منذ 35 عاماً الذي يقر فيه الكونغرس مصطلح “الإبادة الجماعية للأرمن،” على أعقاب قرار العقوبات ضد أنقرة، وتوطئة لزيارة اردوغان.
يشار إلى أن المحاولات المتعددة السابقة لإصدار قرار مشابه في الكونغرس تعثرت جميعها بفضل ضغوط اللوبي “الإسرائيلي.” إذ تشير وثيقة رسمية لوزارة الخارجية في تل أبيب لعام 1987 دعمها التام “لتركيا في الضغط على الكونغرس الأميركي لإفشال تصويت على قرار يعلن يوم 24 نيسان/إبريل، من كل عام، يوماً للتضامن مع المذبحة الأرمنية.”
قبل بضعة أيام من بدء لقاء الرئيسين أُفرج عن مضمون مذكرة داخلية في وزارة الخارجية الأميركية تتهم تركيا “بارتكاب جرائم حرب وتطهير عرقي” ضد الكرد في الشمال السوري (صحيفة نيويورك تايمز، 9 نوفمبر الجاري).
صاغ المذكرة نائب المبعوث الخاص لسوريا والسفير الأميركي الأسبق لدى البحرين، ويليام روباك، قدمها لرئيسه جيمس جيفري، ينتقد فيها “تراخي” السياسة الأميركية مع تركيا والتي ينبغي أن تتميز بالتشدد الديبلوماسي وإنزال عقوبات قاسية عليها.
حِرْص الرئيس ترامب على المضي بلقاء نظيره التركي جاء بالتزامن مع تصميم قادة الحزب الديموقراطي في مجلس النواب المضي في إجراءات التحقيق والاستماع لشهادات مسؤولين في الإدارة تمهيداً لمحاكمته وعزله.
أتى حرصه على خلفية رغبته لصرف الأنظار، ولو قليلاً، عن إجراءات التحقيق الجارية، وهو أمر منطقي.
بيد أن المستشار السابق لشؤون الأمن القومي، جون بولتون، أضاف أبعاداً أخرى لقرار الرئيس ترامب، خلال خطاب له مطلع الشهر الجاري أمام مجموعة (مورغان ستانلي) المصرفية في مدينة ميامي بولاية فلوريدا (شبكة أن بي سي للتلفزة، 12 نوفمبر الجاري).
نقلت الشبكة عن بعض الحاضرين مباشرة قولهم إن بولتون “يعتقد بتوفر علاقة شخصية أو حتى عملية تتحكم بموقف ترامب من تركيا، لا سيما وأن لا أحد من مستشاريه (الحاليين) يشاطره الرأي في هذه المسألة.”
إمعاناً في توضيح تداخل البعد الشخصي بالعملي بين ترامب واردوغان، نشرت صحيفة نيويورك تايمز، 12 نوفمبر، تقريراً مطولاً للعلاقة الحميمية بين الرئيسين والتي عهدا لتطبيقها إلى صهريهما، جاريد كوشنر وبيرات البيرق – زوج كريمة اردوغان ووزير ماليته، منوهة إلى المصالح التجارية العائدة لمجموعة ترامب في استانبول. البيرق من جانبه، وفق التقرير، أشاد بعلاقته المتينة مع كوشنر لتسهيل كافة القضايا ذات الاهتمام المشترك بين الرئيسين عبر “ديبلوماسية الأبواب الخلفية.”
كما وأشار التقرير إلى “تقارب” ترامب مع اردوغان بخلاف توصيات “مستشاريه وقادة الكونغرس عن الحزب الجمهوري،” في مناسبتين: الأولى خلال مكالمتين هاتفيتين، 9 أكتوبر الماضي، وإبلاغه بانسحاب القوات الأميركية من الشمال السوري؛ والثانية، 7 أكتوبر، مؤيداً قرار تركيا بغزو المنطقة وزعزعة سيطرة الكرد عليها.
وتحلى الرئيس اردوغان بحماسة مماثلة للقاء ترامب بغية ترميم علاقة بلاده. وأوضح السيناتور الجمهوري المقرب من ترامب، ماركو روبيو، أجندة من أربعة أركان تشكل هاجساً للرئيس التركي: تخفيف حدة العقوبات المفروضة على بلاده؛ الفوز بتسلم غريمه فتح الله غولن؛ وقف الدوريات العسكرية الأميركية المشتركة مع القوات الكردية في الشمال السوري؛ وإيصال رسالة شديدة الوضوح عن عزم تركيا التخلص من القائد العسكري لقوات قسد، مظلوم عابدي.
الأجهزة الأمنية الأميركية أعربت للرئيس ترامب عن عدم رضاها لمساعي تركيا السيطرة على أبو بكر البغدادي، قبل تنفيذ القرار الأميركي باغتياله قصفاً. وأشارت لمقربيها في بعض وسائل الإعلام بأن البغدادي قصد الأراضي التركية قبل بضعة أيام من الغارة الأميركية لبحث ما تردد أنه يسعى لترتيب إقامته وعائلته هناك، مشددة على “تساهل واسترخاء” جهاز الاستخبارات التركي أمام البغدادي وعناصر داعش.
المتغيرات السياسية عند ترامب
أثنى الرئيس ترامب، خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع اردوغان، على تركيا “كحليف رائع داخل الناتو وشريك استراتيجي للولايات المتحدة حول العالم.”
للوهلة الأولى لا يبدو ما يدعو للقلق أو الذهول من تصريح ترامب مصطحباً معه بعض قادة الكونغرس من الحزب الجمهوري للقاء اردوغان على انفراد، في خطوة غير مسبوقة مع رئيس دولة أجنبية زائر.
عند التمحيص فيما هو أبعد من ثمة إشارة عابرة لحليف تاريخي للمخططات الأميركية في المنطقة، نستحضر شبح وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر دائم الزيارة المنفردة للبيت الأبيض في بلورة توجهات ترامب، التي يكتنفها الغموض والتقلب في معظم الأحيان؛ بل هي رسائل قوية لأركان المؤسسة الحاكمة بأن السياسة “الحكيمة” تقتضي تفادي نزعة إشعال الحروب لزعزعة استقرار الأقاليم، وأن المطلوب إنجازه هو “توازن القوى.”
كيسنجر يشدد على تفوق الولايات المتحدة على الصين الصاعدة بقوة للمسرح الدولي، وروسيا التي يعتبرها بانها ضعيفة، لكن ضرورة التعايش معهما على قاعدة بينة من توازن القوى.
في النموذج “الكيسنجري” لا ضير من علاقة تقارب بين تركيا وكل من روسيا وإيران في الوقت الراهن، في الإقليم، ويتعين على الولايات المتحدة استغلال ذلك لمنع أي منهما من ترسيخ قدميها كقوى كبرى في الشرق الأوسط.
ويضيف النموذج عينه أن العنصر الأهم في سياسات الدول القوية هو توفر قيادة مركزية لديها قدرة على ممارسة المرونة في المواقف وعقد تحالفات بغية تصويب بوصلتها طمعاً في تحقيق توازن القوى، الذي سيبنى عليه سلام مقبول في المنطقة.
نظرياً، إن استمر الرئيس ترامب في تبني “النموذج الكيسنجري” لتوازن القوى في الشرق الأوسط، ينبغي عليه المحافظة على الانفتاح والتواصل مع اردوغان وآخرين وتسليط الجهود المشتركة لتحقيق التوازن المرجو.
الأمر الذي يؤشر بقوة على توجه الرئيس ترامب بعد انفضاض لقائه بالرئيس التركي، من خلال سرديته وتأييده للقضايا المشتركة، وإحالة أو ترحيل القضايا الخلافية لفرق متخصصة دون اسنادها ببرنامج زمني ناظم.