محمود عباس والانتخابات – منير شفيق
طرح الرئيس الفلسطيني محمود عباس إجراء انتخابات تشريعية، باعتبارها الحل الوحيد للخروج من المأزق الذي يواجهه، كما المأزق المسمى الانقسام بين الوضعين والاستراتيجيتين والسلطتين في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة.
الانتخابات مغالبة بين المتنافسين، ولكن المغالبة في الساحة الفلسطينية، ولا سيما في الظروف الراهنة، ستكون مدعاة لمزيد من الصراع والانقسام، وستنتهي إما بمأساة وإما بمهزلة.
نقطة الانطلاق في النظر إلى الانتخابات باعتبارها الحل الوحيد لمواجهة الخلافيات والصراع والتنافس بين الأحزاب، خصوصاً الأحزاب الكبيرة التي تتناوب على حكم البلد، جاءت من نمط الأنظمة الديمقراطية الغربية، الأمر الذي لا يعني تلقائياً أن الشيء نفسه يمكن أن يطبق وبنجاح على كل البلدان والأنظمة أو الحالات الأخرى. وذلك لسبب أساسي، وهو كون الأحزاب المتنافسة على تداول السلطة في الغرب، هي أحزاب من نمط واحد، ومتفقة على طبيعة النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأيديولوجي، ومتفقة على الاستراتيجية الخارجية. أما إذا اختلفت، فعلى جزئيات وتفاصيل ضمن الإطار العام. والأهم، هو الإجماع الوطني على احترام نتائج الانتخابات، بما يشمل الجيش والأجهزة الأمنية والدولة العميقة والرأي العام عموماً.
هذا يفسر ما تمتعت به الدول الديمقراطية الغربية من استقرار في ظل الديمقراطية. وبالمناسبة، يجب ألاّ ننسى ما تتمتع به هذه الدول من بحبوحة اقتصادية ناجمة من سيطرتها الاستعمارية الإمبريالية العالمية. فالديمقراطية لا تحتمل أن تتغير الاستراتيجية الخارجية أو النظام الداخلي تغييراً نوعياً بانتقال السلطة من جزب إلى حزب. والديمقراطية لا تتحمل أوضاعاً اقتصادية قاسية لا يحتملها الشعب.
أما الاحتكام إلى الانتخابات النزيهة في البلدان التي تفتقر إلى مثل ذلك الإجماع الوطني، فإن اللجوء إليها يؤدي في كثير من الأحيان إلى الحرب الأهلية، أو ما يشبه الحرب الأهلية، أو إلى انقلاب عسكري ينسف تلك النتائج نسفاً، ويُحرمها تحريماً. وقد حدث مثل هذا في الجزائر في العام 1990/1991، وحدث في مصر 2012/2013، إلى جانب أمثلة أخرى، دخلت في نمط من أنماط الحرب الداخلية. ولكن ما يهم موضوعنا الفلسطيني، فهو ما حدث بعد انتخابات 2006 من صراع بين شرعية المجلس التشريعي ذي الأغلبية الحمساوية، وبين شرعية الانتخابات الرئاسية (محمود عباس- فتح). وقد أدى ذلك إلى الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة.
لم يكتف محمود عباس بهذا الدرس، بل راح يصر على تكراره والغرق في بحره، كأنه يريد المزيد من الانقسام من خلال المزيد من المغالبة في الانتخابات. فكيف يمكنه أن يتوقع أن تجري انتخابات نزيهة لا تؤدي إلى انفجار المزيد من الصراع والانقسام؟ فلا هو يقبل، ولا يستطيع، أن يسلم سلطة رام الله إذا ما أخرجت صناديق الانتخاب أغلبية ترفض سياسات أوسلو، وتريد وقف التنسيق الأمني. وهذه الأغلبية مؤكدة من جانب الشعب الفلسطيني وغالبية الفصائل الفلسطينية.
ثم كيف لا يتصور هول الجريمة التي سترتكب إذا فاز في الانتخابات من هم ضد المقاومة المسلحة وضد الانتفاضة الشعبية (هو ومن معه مثلاً) وجاؤوا لقطاع غزة لتصفية قاعدة المقاومة الجبارة فيه، فهل يجرؤ فصيل فلسطيني (عداه) على الإقدام للمساس بالأنفاق والصواريخ، أو بالموافقة على ذلك؟
ثم أفلا تكون جريمة لا تغتفر بالنسبة إلى من “يحترم” نتائج انتخابات تذهب بعد ذلك المذهب لا سمح الله؟
وبكلمة، النظام الانتخابي في الوضع الفلسطيني هو خطأ وخطيئة منذ اللحظة الأولى؛ لأن أولى ممارساته شكلت جزءاً من مسار اتفاق أوسلو الباطل والفاشل والساقط والكارثي والـ.. بل إن إجراء انتخابات قبل إنجاز مرحلة التحرر الوطني، أو انتصار المقاومة، شيء لم يسبق له مثيل في تاريخ ثورات الشعوب ضد الاستعمار. فالجبهة المتحدة التي تخوض النضال/ المقاومة ليست بحاجة إلى الانتخابات التي تولّد المنازعات والمنافسات، لكسب شرعيتها، فشرعيتها من تأييد شعبها للمقاومة.
إن الانقسام الذي حدث في الواقع الفلسطيني نتيجة انتخابات 2006 وتداعياتها، لم يكن عملياً ذلك الشر الذي يراه فيه كثيرون. وذلك لأسباب متعددة عالمية وإقليمية وعربية وداخلية. فعلى سبيل المثال:
داخلياً: أدى الانقسام إلى كف يد سلطة رام الله عن السلطة في قطاع غزة، أي تحررت غزة من سياسة التسوية واتفاق أوسلو؛ ولم تقع تحت التنسيق الأمني الإجرامي الذي مورس على الضفة الغربية، ولم يزل. والأهم أن المقاومة المسلحة في قطاع غزة حين امتلكت السلطة والأرض حفرت أنفاق الحماية والقتال تحتها، وعظم التسلح والعديد تحت السلاح. واستطاعت المقاومة مع الشعب في قطاع غزة أن تحقق ثلاثة انتصارات في ثلاثة حروب ضد جيش العدو الصهيوني. ووصل الوضع الآن إلى مستوى جديد، مع إطلاق مسيرات العودة الكبرى بقيادة موحدة تضم أوسع الأوساط الشعبية وأغلب الفصائل.
أما على مستوى الضفة الغربية، فقد أمعن التنسيق الأمني في تصفية المقاومين، وأصبحت مناهضة انطلاق انتفاضة ثالثة سياسة رسمية يقودها الرئيس الفلسطيني. تصوروا الفارق لو أن حال غزة الآن كحال الضفة الغربية!
بالرغم من ذلك، عاد السحر فانقلب على الساحر في الضفة الغربية، باندلاع المقاومة الشبابية العفوية بالسكاكين والدهس منذ 2015، ثم بانطلاقة انتفاضة القدس التي أطاحت بالأبواب الالكترونية والكاميرات في المسجد الأقصى 2017، وانتهت بانتصار حاسم، ثم تلتها إضرابات الأسرى، والاعتصام في الخان الأحمر، ثم انتفاضة اليومين التي حررت مسجد باب الرحمة في المسجد الأقصى 2019. يعني أنه بالرغم من كل البكاء والهجاء اللذين صبهما ويصبهما البعض على الانقسام، وبالرغم من التنسيق الأمني والسياسات المعوّقة للانتفاضة الشاملة، إلاّ أن أرض الضفة الغربية والقدس راحت تميد تحت الاحتلال والاستيطان والمستوطنات والتهويد؛ ومحاولات تقسيم الصلاة في المسجد الأقصى بين المسلمين والمستوطنين.
ويمكن أن يزاد هنا “بيت آخر من الشعر”، وهو انهيار مسار أوسلو، وحدوث القطيعة بين محمود عباس والإدارة الأمريكية بعد قرار دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الكيان الصهيوني، كما معارضة عباس ما سمي بـ”صفقة القرن”، الأمر الذي يعني أن التطورات الواقعية التي حدثت بعد الانقسام، وفي ظله كانت ذات طابع إيجابي، فلم تذهب في مصلحة الكيان الصهيوني ولم تشكل كارثة على النضال الفلسطيني،بل بالعكس.
والسؤال الآن: إذا كانت دعوة محمود عباس للانتخابات تمثل توجهاً سلبياً وخاطئاً، فما هو البديل؟ والجواب هو الرد على التحدي الأول، أو الخطر الداهم الذي يجب أن يواجَه في هذه المرحلة؟
الجواب: مواجهة ما يجري من احتلال واستيطان في الضفة الغربية والقدس؟ سلطة رام الله مشلولة، ومشغولة في التحضير للانتخابات، ولا تفعل شيئاً لمواجهة هذا الخطر الداهم، بل راحت أجهزتها الأمنية تسلم المقاومين.
أما أغلب الفصائل فقد جعلت من إنهاء الانقسام وإجراء المصالحة أولويتها، وذلك بدلاً من البناء على الإجماع الفلسطيني ضد “صفقة القرن”؛ للانتقال إلى وحدة وطنية شاملة تضع نصب عينيها انتفاضة شاملة، في ظل هذه الوحدة للدخول في مواجهة شعبية واسعة في الشوارع والساحات ضد الاحتلال والمستوطنين في الضفة الغربية والقدس. فشعار اليوم يجب أن يكون لا للانتخابات، نعم لوحدة وطنية شاملة ضد “صفقة القرن”، نعم لانتفاضة مدعومة فلسطينياً وعربياً وإسلامياً وعالمياً.