وطن في عهدة الطائفية: د. عدنان منصور
ليس هناك من بلد في العالم كله مثل لبنان يجمع كماً كبيراً من التناقضات والتباينات في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأفكار والتوجّهات والثقافة والأداء والسلوك، وكذلك الرؤى المستقبلية والمفاهيم والتصورات لحاجات الوطن ونهضته وتطوره ومتطلبات الشعب وغياب الموقف الواحد الموحد، الذي يفرز العدو عن الصديق، ويميز بين الحليف والخصم وبين المقاومة والعمالة .
بلد آثر منذ عقود طويلة وقرون عديدة ان تكون الخلافات الداخلية المستحكمة بين أبنائه، نهجاً وسلوكاً وهدفاً وممارسة وتطبيقاً، لا يزيحون ولا يبتعدون عنه، رغم كل الأدبيات والشعارات التي تصدر يومياً عن قادته وزعمائه وسياسييه والتي توحي للعالم ولكل مَن يتتبع أخبار هذا الشعب المسكين ان لبنان بلد مثالي في العيش الواحد، في ظل نظام ديمقراطي يحسد عليه، على اعتبار أنه نموذج يروّجون له، ورسالة حضارية يراد ترسيخها عبثاً في الأذهان، كي يبعدوا عنهم كل المساوئ والسياسات المتخلفة، والعقليات السائدة التي لوثت الوطن، تعيش القرن الحادي والعشرين وهي تمارس السياسات والحكم والسلطة بعقلية القرون الوسطى، ان لم يكن قبلها. هي حال لبنان واللبنانيين المنكوبين بواقع مر تعيس وبكابوس لم يستطيعوا أن يتخلصوا منه. كل واحد منهم يندد بالطائفية ويمقتها، ويلعن الاستغلال ويدين الفساد ويريد إقناعنا أنه يعمل من أجل وطن نموذجي مثالي ينافس به جمهورية أفلاطون أو المدينة الفاضلة للفارابي، وأنه يحرص على إقامة دولة مدنية حديثة، تتظلل بقانون وطني عصري متطور. وانه أكثر الناس إصراراً على إلغاء الطائفية السياسية وتأكيداً على الالتزام بالكفاءة والإدارة والنزاهة لجهة التوظيفات بمعزل عن الطائفة وحساباتها الضيقة.
هذا في النظرية، لكن ماذا في التطبيق؟!! لم يستطع اللبناني رغم كل المزايدات والشعارات البراقة والأدبيات المنمّقة والعناوين الوطنية الباهرة من أن يخرج ويتحرّر، وللأسف الشديد من عباءة الطائفية المهترئة العفنة التي تآكلت وتخطاها الزمن، إذ يُصرّ عبثاً وجهلاً على الالتحاف بها، مهما كانت رائحتها كريهة، ومهما كانت مساحة هريانها وحجمه.
إن الحالة الطائفية البغيضة التي رمت بثقلها البشع على لبنان، وكبّلته لزمن طويل ولا زالت أعاقت مسار الوطن وأربكت الاقتصاد والسياسة، وشلت قدرات الإنسان اللبناني وطموحاته، لجهة مفاهيمه وتصوراته وتفكيره وانتمائه، وحركة تفاعله في الداخل والخارج، ما دفعه أحياناً الى التقوقع في دائرة جغرافية ضيقة، يبتعد من خلالها عن أفكار الآخر، وعن القواسم المشتركة البناءة التي تجمعها به، والتي تعكس آمال وآلام وطموحات كل المواطنين الأحرار الشرفاء، بعيداً عن العصبية السياسية والدينية والمذهبية والفكرية والمناطقية.
لكن كيف يمكن تفعيل وتطبيق هذه القواسم المشتركة والتطلعات المستقبلية والأهداف الواحدة، اذا كان الخلاف والتباين لا زال مستحكماً حول مفهوم الوطن والوطنية، والخيانة والعمالة، وتعريف العدو اللدود من الصديق الحقيقي؟ كيف يمكن بناء وطن في ظل ممارسة طائفية وفكر متزمت متحجر، يعيد كل مشروع إنمائي او خطة إصلاحية، أو إجراءات لمكافحة الفساد، أو قرارات تهدف الى تطوير إداري او مالي او مؤسسي؟
عندما تعود هذه الممارسة الى سيرتها ومفهومها الطائفي، بحيث ان الذي كنت تجده بالأمس يحاضر في محاربة الطائفية السياسية والغائها، تراه اليوم أحرص ما يكون على التمسك المطلق بها حتى ولو كان الأمر يتعلق بمسائل عادية جدا.
إن مشكلة لبنان منذ عقود طويلة مع حكامه وزعمائه وسياسييه، وكذلك مع الفعاليات والشخصيات المهتمة بالشأن العام والأحزاب العاملة فيه بمروحتها الواسعة، وإن استثنينا منها أحزاباً علمانية قليلة، لم تتمكن بعد من الخروج – بارادة منها او دون إرادة – من هيمنة وتأثير وسطو الطائفية عليها، فكانوا دائماً أسرى لها، لا يبتعدون عنها، وإن فعلوا، فلوقت قصير، ثم يعودون إليها بملء إرادتهم كالنحل الذي يغادر القفير ثم سرعان ما يعود إليه بعد أن ينجز مهمته.
إنها مأساة لبنان واللبنانيين قاطبة. الكل يحمل شعارات ومطالب ومبادئ براقة، تتناول الحكم والنظام والسياسة والاقتصاد، وبناء الدولة العصرية المدنية، وصون الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والانتماء المتوازن، وتكافؤ الفرص، لكن كل ذلك يضيع هباء منثوراً ويتبخر عند اول اختبار، كلما اردنا تطبيق هذه الشعارات. اذ انه عند الاستحقاق نجد أن الغالبية التي تمسك بالحكم والقرار والمؤسسات، تلجأ على الفور إلى حضن الطائفية، وتتمسك بها، وتنضوي تحت عباءتها، التي منها تستمد سلوكها وسياساتها وفكرها وانتماءها وقراراتها وتوجهاتها، ومن ثم استمراريتها، حتى ولو كان ذلك على حسابها وحساب الوطن والمواطن.
من سوء حظ لبنان واللبنانيين انهم ابتلوا بمرض الطائفية العضال، الذي لا أحد يعلم متى وكيف الشفاء منه، وعلى أيدي اي فريق من أطباء السياسة من الرجال الوطنيين الحقيقيين، سيتعافى لبنان ويكون له في ما بعد مكانة لائقة بين الامم تشرف شعبه ويحترمها العالم.
(البناء)