بقلم ناصر قنديل

مناقشة هادئة لخطاب خالد حدادة الغاضب: ناصر قنديل

كتب الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني خالد حدادة مقالاً نشره على صفحته على الفايسبوك، يناقش فيه المواقف التي أطلقها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، في إطلالته الأخيرة حول الحراك الشعبي والمخاطر والمخاوف والشعارات. ولغة حدادة القاسية الأقرب إلى نبرة القطيعة وليس الحوار، تستحق النقاش كما الحجج التي ساقها لتفسير موقفه، ليس فقط لكونها تعبّر بصورة غير رسمية عن مواقف تفسر اصطفاف الحزب الشيوعي اللبناني، وتفلسف هذا الاصطفاف، بل أيضاً لأنها الأشد جرأة ووضوحاً من بين همهمات في صفوف الكثير من اليساريين والوطنيين الذين يدعون حزب الله للانخراط في الحراك ودعمه والمشاركة في قيادته، ويأخذون عليه عدم ترجمة ما قاله من تقدير وتفهّم لأسباب الحراك ودوافعه بالانخراط فيه، بل بتغليب موقف التحفظ والحذر من الأفق الذي يرسمه الغموض في قيادة الحراك الفعلية، رغم طمأنة حدادة بأن كل شيء سيكون تحت السيطرة، لأن الفقراء في الشارع والمدافعين عن حقوقهم هم الذين سيحصنون الحراك كما حصنوا ويحصنون المقاومة .

 

يبدأ حدادة مقالته بالقول إن خطاب السيد جاء تغليباً للبنية المذهبية للحزب، كشريك في نظام طائفي وأكثر من ذلك قدّمه السيد أمس، كحامٍ للنظام عبر إطلاق لاءاته الثلاث المناقضة لحس الناس ومطالبها: لا لإسقاط العهد، لا لاستقالة الحكومة، لا للانتخابات المبكرة . ويضيف باختصار وضع السيد خطاً أحمر هو النظام نفسه . وتناول حدادة مخاوف المقاومة من غموض القيادة والتمويل ودور السفارات والحاجة لتحصين الحراك بالقول للسيد بلغة التحدي هل فعلت أنت ما هو واجب لتحصين هذا الحراك الشعبي والوطني والمحقّ على حد تعبيرك؟ أعتقد أن خطابك بالأمس سيساهم في تقوية وزن ودور السفارات، في محاولة حرف التحرّك. نحن سنتصدّى لذلك، الفقراء في الشارع والمدافعون عن حقوقهم هم الذين سيحصّنون الحراك، كما حصّنوا ويحصنون المقاومة ، واصفاً دعوة السيد للحراك ببلورة قيادته وصولاً للتفاوض بالتحدّي قائلاً أنت تعرف يا سيد أن كل التحركات لا تبدأ بالتفاوض إلا مع البدء بالتنازلات من المسؤولين، سأطلب منك العودة الى مسار الثورة الإيرانية وليس ما سُمّي بالربيع العربي ، شارحاً خريطة الطريق التي يراها سبيلاً للحل بالقول مطالب الساحات واضحة، عدا عن الجانب المعيشي فإن الشارع، بعفويته، وضع مساراً مسؤولاً: استقالة الحكومة، تشكيل حكومة انتقالية موثوقة، إقرار سريع لخطوات إعادة المال المنهوب والأملاك العامة وسواها، إقرار قانون انتخاب جديد نحن نريده وطنياً خارج القيد الطائفي وعلى أساس النسبية ، إجراء انتخابات مبكرة ، مضيفاً ابدأوا بالخطوة الأولى عندها يصبح التفاوض مجدياً .

مناقشة كلام حدادة لا تستقيم من الأعلى إلى الأسفل لأنه وضع النتائج في الأعلى وترك الأسفل للمقدّمات، فالقبول والرفض لاستنتاجاته وتقييمه لموقف السيد كحامٍ للنظام وللفساد، واعتباره أنه غلب البنية المذهبية للحزب كشريك في نظام طائفي، أو وصف دعوة السيد لتحصين الحراك بوجه تدخل السفارات بالتحدي واعتبار كلام السيد يخدم تعزيز نفوذ السفارات، سيتوقف على تفحّص ما عرضه حدادة من تصوّرات يمكن تلخيصها باعتباره أن توازن القوى في الحراك تحت السيطرة لصالح برنامج ينتهي بانتخابات مبكرة، وفقاً لنظام نسبي وخارج القيد الطائفي، وأن كل المطلوب من السلطة التي يشارك فيها حزب الله أن تنحني للحراك باستقالة الحكومة، وبعدها سيكون كل شيء قابلاً للذهاب نحو تحويل الحراك إلى ثورة. وهنا يعتقد حدادة أن دور حزب الله يجب أن يكون بالدفع لاستقالة الحكومة متخلياً عن دعوته لإسقاط العهد، بقوله، عند استقالة الحكومة يبدأ التفاوض، مستعيناً بالتشبيه بالثورة الإيرانية، لاعتقاده ربما بأن السيد لم يقرأ أو يطلع على تجارب الثورات الملوّنة التي شملت أغلب دول أوروبا الشرقية التي يعرفها السيد حدادة جيداً، ويعرف ما آلت إليه مع استقالة الحكومات، وأن حدود ثقافته السياسية تقف عند تجربة الثورة الإيرانية.

المفصل إذن هو استقالة الحكومة، التي يثق حدادة ومعه آخرون أنها مفتاح الحلول، المفتاح الذي يدعون السيد نصرالله لاسترداده، وبهذه الاستقالة سيتولى الشعب ومعه المدافعون عن المقاومة الذين قاموا بتحصينها بتحصين الحراك ، فهل يبدو كلام حدادة دعوة لسيناريو قابل لسيطرة أم هو القفزة في المجهول التي تقف وراء الخشية والحذر اللذين طبعا كلام السيد، والتدقيق الذي هرب منه حدادة لا يمكن للسيد إغفاله، فلنفترض أن الحكومة استقالت اليوم، وبالتأكيد لا نظن أن حدادة يدعو لحكومة بديلة برئاسة الرئيس الحريري أو أي من رموز الطبقة الفاسدة كما يصفها، فهل لدى حدادة و الفقراء والمدافعون عن حقوقهم معه، الذين حصنوا المقاومة ويحصنونها، اسم لرئاسة الحكومة يناسب تحقيق الأهداف التي يسوقها باستسهال القدرة على حماية تحقيقها بموازين القوى الحاكمة للحراك، والتي تدخل فيها فعالية الحضور المنظم عبر أحزاب وجمعيات تملك مقدرات مالية وتنظيمية لا يمكلها حدادة و الفقراء والمدافعون عن حقوقهم ، ويتاح لها بقوة السفارات، التي يستخفّ حدادة بحضورها في الحراك، فرصٌ مستديمة للسيطرة على وسائل الإعلام الوازنة والفاعلة والمموّلة، والتي تكرس بثها لما هو أبعد من تغطية الحراك نحو الإمساك بدفته السياسية والتنظيمية ورسم خطواته. السؤال هو: ماذا سيحدث في اليوم التالي لاستقالة الحكومة، ولأن المنطقي أن الحراك الداعي للاستقالة سيتمسك بالدعوة للامتناع عن تسمية أي من رموز الطبقة الفاسدة لرئاسة الحكومة البديلة، أن تفشل الاستشارات النيابية بالخروج باسم مرشح يقبله الحراك، ويبقى أمام الفقراء والمدافعين عن حقوقهم والمقاومة التي يحصنها حدادة ويعد بتحصينها، ونحن نصدق صدق نياته هنا، خيار واحد، هو التساكن مع الحكومة المستقيلة كحكومة تصريف أعمال لا يمكن مطالبتها بشيء ولا مساءلتها على شيء، وعجز عن استيلاد حكومة جديدة، بل حتى تسمية رئيس للحكومة الجديدة، وتمضي أسابيع وشهور، ويبدأ التفاوض، نعم التفاوض، ولكن ليس مع حدادة ولا مع قيادة يبلورها الحراك، بل بين السفارات، على رمي اسم غامض يضمن الخارج تسويقه في وسط الحراك، بصفته من التكنوقراط والخبراء المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة، ويخرج الحراك يحتفل بالنصر لبدء مسار حكومي جديد، يعوّمه الغرب والعرب مالياً، كما يقترح ديفيد أغناسيوس في مقالته في الواشنطن بوست تحت شعار منعاً لخسارة لبنان على طريقة خسارة سورية. ويبدأ شعار أولوية النهوض من الوضع المالي الصعب بالتسلل لفرض معادلة تحييد لبنان، تحت شعار النأي بالنفس، وبالتأكيد لا محاربة فساد ولا محاكمات ولا استعادة مال منهوب، والانتخابات المبكرة تصبح أحد اثنين، ذكرى جميلة أو انتخابات على القانون الحالي تعيد إنتاج المجلس الحالي مع حجز حصة للقوى التي سيطرت على الحراك، وليس للوطنيين واليسار حصة وافرة منه، بل للذين قادوا فعلياً وصاروا حزب رئيس الحكومة الجديد. فهل هذا هو المسار الشعبي والتغييري الذي يريد حدادة من السيد نصرالله فتح الطريق أمامه؟

ربما لم يكن لدى حدادة الوقت ليتذكر أن الثورة الإيرانية كانت لها قيادة واضحة وبرنامج واضح وقائد مُجمَع عليه قبل أي بحث بكيف ومتى بدأت بالتفاوض، ولن يمانع السيد من التفاهم على اعتبار نموذج الثورة الإيرانية فيصلاً في بت الخلاف، بدعوته الواضحة لبلورة هذه القيادة والبرنامج. وليثق حدادة أن هذه هي بيضة القبان، وضوح القيادة والبرنامج وبعدها لن نختلف مع حدادة حول توقيت التفاوض قبل استقالة الحكومة أم بعدها، فبوجود الوضوح في القيادة والبرنامج تتغير أشياء كثيرة. وربما ايضاً لم يكن لدى حدادة الوقت للانتباه لمخاطر استقالة الحكومة في ظل غياب قيادة وبرنامج للحراك، ولا الوقت لفحص سيناريو آخر، هو البدء من رأس الدرج بشطفه وليس من أسفله، أي إلزام الحكومة والمجلس النيابي، بقوة الحراك وثقة حدادة بالقدرة على التحكم بضبط أدائه لمحاربة الفساد وإسقاط النظام الطائفي، بإصدار قوانين الانتخابات المنشود وقانون رفع الحصانات والسرية المصرفية عن كل من تولّى الشأن العام الموعود، وتحديد مرحلة انتقالية في هذه القوانين، التي تتشكل بنصوصها هيئات قضائية مستقلة للإشراف على تطبيقها. ووفق المرحلة الإنتقالية تصدر لوائح المتهمين بجرائم المال العام خلال ثلاثة شهور، وتتشكل حكومة من غير المرشحين بالتزامن، لتتم الانتخابات في نهاية المرحلة الانتقالية المحددة بستة شهور، لتنبثق الحكومة الجديدة من نتائج الانتخابات وفقاً للقواعد الدستورية، ويكون في المجلس الجديد وفق قانون الدائرة الواحدة والنسبية واللاطائفية فرصة تمثيل للقوى التي رسمت خريطة طريق نظيفة وواضحة للحراك، ومنها الشيوعيون واليسار، ويكون على حزب الله ومعه مَن يشاركه الرؤى في الحكومة ومجلس النواب كما وعد الضغط لضبط الإيقاع بالتناغم مع مطالب الحراك الواضحة بقيادته المعروفة لضمان السير بهذه الخطة، ويكون بقاء الحكومة الحالية كحكومة فعلية تسائل وتحاسب وتطالب بتنفيذ متتابع لبنود الخطة الإصلاحية وتصويب الخاطئ فيها، بدلاً من تصريف الأعمال الطويل بغياب أفق حكومة إنقاذ موعودة. فهل هذا السيناريو دفاع عن النظام الفاسد وتعبير عن بنية مذهبية غلبت روح المقاومة، وترسم خطاً أحمر حول النظام أم تضع خطوطاً حمراء حول مشروع غامض يُرشّ عليه بعض السكر الذي سرعان ما يزول بأول فركة يد، فيكشف لنا الخادم الحقيقي لتأبيد نظام الفساد بل تجديد شبابه بنسخة متوجة بشرعية شعبية تماماً كما فعل الربيع العربي.

– مشكلة بعض اليسار أنه يعيد في الحراك تكرار التجربة التي خاضها منذ التسعينيات بخروجه من المقاومة نحو سراب السلطة، والحديث عن منعه عن دوره فيها، ورمي مسؤولية تراجعه على حزب الله، لأنه يريد من حزب الله توظيف قوته في المقاومة لصناعة دور للآخرين في السلطة. وقد لا يُفهم الغضب والتحدي في نبرة حدادة إلا باعتباره ترجمة لهذا التكرار، الرهان على توظيف مكانة وقوة حزب الله لحجز مقعد فاعل في الحراك، لا يبدو أنه متاح اليوم، لكنه للأسف مقعد لا يخدم تحصين البلد والمقاومة ولا الحراك نفسه إذا بقي مصطفاً تحت شعار لم يكن له يد في رسمه. وما ورد في هذا النقاش ليس إلا دعوة للتفكير مجدداً ليضع اليسار والشيوعيون في مقدمتهم خريطة طريق موصلة للأهداف التي نثق بإخلاصه لها، ويقود حواراً مع شركائه في الخيارات المناوئة للهيمنة الأميركية والعدوانية الصهيونية، وصولاً لتفاهمات تتوزع فيها الأدوار كل من موقعه بدلاً من لغة الأحكام الظالمة، والتهم اللتي تصير افتراء، تترجمها نبرة التحدي والغضب، التي لن توصل إلى مكان ولا تقدّم شيئاً للبلد والحراك والمقاومة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى