الانتفاضة الشعبية وضرورة التمييز بين الحليف والعدو: وليد شرارة
أول ما أثار ذعر الأوليغارشية المسيطرة في لبنان وحلفائها في السلطة السياسية هو ما ظهر من رفض شعبي عارم وشامل، ومتجاوز للانقسامات الطائفية والمناطقية، لهذه السيطرة. قامت هذه السيطرة، التي اتاحت نهباً مستمراً للثروة والموارد الوطنية وتعاظماً هائلاً للفوارق في المداخيل بين القلة المسيطرة وغالبية اللبنانيين، على قاعدة تقسيم الأخيرين طائفياً ومذهبياً ومناطقياً. أساس سيطرة الحاكمين في النموذج اللبناني «الفذّ» هو تقسيم المحكومين الى جماعات في حالة دائمة من الحرب الأهلية الباردة. مطالبة الجموع الغاضبة باسقاط النظام وجميع رموزه، بعد أن انفكت قطاعات وازنة منها عن بعض هذه الرموز التي نطقت باسمها لعقود، وتمردت علناً عليها، يشي بتحول كبير في الوعي والمزاج الشعبيين قد يفتح آفاقاً واعدة في المستقبل. التصدي لهذا الاحتمال فرض على أطراف النظام التفكير في كيفية اعادة انتاج الانقسام بين المنتفضين وما تفتقت به عبقرية بعضهم الى الآن هو سرقة شعار «كلهن يعني كلهن»، الذي رفع من قبل قسم من المشاركين في التظاهرات الشعبية، وتأويله وفقاً لمصالحهم وأجندتهم المحلية والاقليمية. أحزاب علة وجودها الدفاع عن نظام المحاصصة الطائفية اللبناني المنتج بطبيعته للاستقطاب الاجتماعي الحاد والفساد والهدر، كحزبي القوات اللبنانية والكتائب، ومجموعة «لحقي»، الليبرالية الهوى والأميركية الميول، يستهدفون عبر هذا الشعار المقاومة اللبنانية وسلاحها لحرف الانتفاضة الشعبية عن معركتها الأصلية مع هذا النظام، دفاعاً عن مصالح الاوليغارشية المسيطرة وانفاذاً لأجندة حلفائها الدوليين. المعركة الدائرة اليوم مصيرية بالنسبة لأغلبية الشعب اللبناني، وتحديد صحيح للأعداء والحلفاء بين الشروط الأساسية لخوضها بنجاح.
من أبرز انجازات الانتفاضة الحالية أنها أعادت ادخال فئات واسعة من الشعب الى حلبة السياسة بعد أن كانت حكراً على «نخب» تزعم تمثيل طوائفه ومصالحها. دخول الجماهير عنوة الى هذه الحلبة يعيد تعريف السياسة بوصفها دفاعاً عن حقوق الشعب الرئيسية وفي مقدمها حق التحكم بمصيره. لكن المضي بهذه المواجهة الى نهاياتها، أي فرض اصلاحات في بنية النظام وتغييرات على سياساته الاقتصادية والاجتماعية، في ظل اختلال موازين القوى المحلية والاقليمية والدولية لمصلحته وحلفائه، يتطلب بناء أوسع شبكة تحالفات في مقابله وتحييد من يمكن تحييده. هي معركة شاقة تتجاوز في صعوبتها ما يسمى بـ«مكافحة الفساد والهدر» والسعي لـ«الحوكمة الرشيدة» وغيرها من الوصفات الجوفاء التي روجت لها مؤسسات كالبنك الدولي ومنظمات الارتزاق غير الحكومية، والتي تتجاهل الأسباب البنيوية لتضخم ظاهرة الفساد على المستوى العالمي، المرتبطة عضوياً بتحولات الرأسمالية في عصرها النيوليبرالي. نظام المحاصصة الطائفي الذي أعيد بناؤه بعد نهاية الحرب الأهلية من خلال الشراكة بين أمراء الحرب والأوليغارشية الاقتصادية والمالية، والخيارات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى التي تم اعتمادها منذ تلك الفترة، هي بين أهم العوامل البنيوية التي ساهمت في انتاج الأزمة الحالية في لبنان. أصوات عدة ارتفعت خلال العقود الثلاثة التي تلت الحرب للاعتراض على هذه الخيارات والتحذير من مخاطرها على مصالح الأغلبية الشعبية ومستقبل البلاد لم يكن بين أصحابها أي مؤيد لحزبي القوات والكتائب. الحزبان من أنصار السياسات النيوليبرالية وتحالفاتهما السياسية معروفة وعلنية، وقد تجلى هذا الأمر بوضوح بعد عودتهما للمشاركة في الحكومات المتعاقبة منذ عام ٢٠٠٥، ماذا يفعلان في احتجاجات شعبية على نتائج مباشرة، ومتوقعة منذ زمن طويل، لهذه السياسات؟ الجواب شديد البساطة وهو السعي لحرف الانتفاضة الشعبية عن مسارها لخدمة أجندتهم المشتركة مع تلك الخاصة بحلفائهم الاقليميين والدوليين، والموجهة ضد المقاومة في لبنان. تواجدهم في الاحتجاجات اهانة لذكاء المنتفضين ومحاولة تضليل وخداع لن تنطلي على أحد. لا يستوي من قاوم وما زال يقاوم العدو مع من عمل في الماضي تحت إمرته ويعمل اليوم ضمن الأجندة الأميركية.
(الاخبار)