مقالات مختارة

خلفيات انكفاء ترامب عن سوريا بقلم د.منذر سليمان

          في السابع عشر من الشهر الجاري، انتقل مركز ثقل الاتهامات الداخلية المتبادلة، بين الرئيس ترامب وخصومه داخل الحزبين، إلى إعلان نائب الرئيس مايك بينس (بعد زيارة عاجلة ومفاجئة لتركيا على رأس وفد أميركي رفيع المستوى)  بأن بلاده “.. وتركيا اتفقتا اليوم على إعلان وقف لإطلاق النار في سوريا .. (و) جددا التزامهما بوحدة سوريا وسلامة أراضيها وبالحل السياسي بقيادة الأمم المتحدة.”

 

        شكل الإعلان وما رافقه من تصريحات متتالية للرئيس الأميركي خروجاً عن النص المألوف لأركان المؤسسة الحاكمة، لا سيما لقراره بسحب القوات الأميركية من شمال شرق سوريا “في غضون 30 يوماً؛” مؤكداً عزمه بأنه “لن يكون طرفاً في صراع تركي – كردي عمره 200 عام، و(عليه) قرر الانسحاب من سورية.”

        ووفر إعلان الرئيس ترامب مادة سخية من الانتقادات لتحديه توجهات أجنحة المؤسسة الإبقاء على القوات الأميركية كعنصر ضامن لتعطيل نهاية الحرب الكونية على سوريا، باستثمارها في مجموعات مسلحة متعددة الولاءات أطلقت عليها “وحدات حماية الشعب” الكردية، ما لبثت أن أضحت نسخة منقحة من “جيش سوريا الحر” السابق، ورست على توصيف يخدم الأهداف الاستراتيجية الأميركية في إدامة الصراع داخل وعلى سوريا، بتسمية المجموعات عينها “الجيش الوطني السوري.”

        بداية، من الضروري للمرء رصد التحولات في المواقف الأميركية لسبر أغوار قرار الانسحاب الأميركي “المفاجيء” من شمال شرقي سوريا؛ ظاهره “التخلي عن الحلفاء الكرد،” وباطنه مقتضيات التحولات الاستراتيجية الإقليمية والدولية التي أدت لتلك الترتيبات كناية عن الجدل الداخلي بين أقطاب مراكز القوى والقرار: المؤسسات الاستخباراتية والعسكرية والسياسية.

        كما ينبغي التنويه لما طرأ على الخطاب الإعلامي الأميركي من تأييد شبه مطلق “لأعوان الولايات المتحدة” في شمال شرقي سوريا تحديداً مواكباً بذلك الانتقال “الاستراتيجي” للقرار الأميركي.

        التعويل الإعلامي انصب على تعويم “وحدات حماية الشعب” الكردية، كنموذج ملحق بحزب العمال الكردي العامل في الأراضي التركية، لدرء التحفظات التركية؛ متدرجاً إلى صيغة “قوات سوريا الديموقراطية – قسد،” بغية دفع التهم عن التركيبة الإثنية والتلميح بأنها تضم عرباً إلى جانب الأغلبية الكردية؛ وإلى تداول مصطلح “جيش سوريا الوطني.”

        وزارة الدفاع الأميركية، البنتاغون، وصفت تلك “الميليشيات المعروفة بالجيش السوري الحر (بأنها) مجموعة من المجانين لا يعتمد عليها،” (واشنطن بوست، 13 أكتوبر الجاري).

        وفي تقرير لاحق ليومية نيويورك تايمز، نقلاً عن المصادر العسكرية عينها، وصفت “جيش سوريا الوطني المكون بأغلبيته من حثالات حركة تمرد فاشلة عمرها ثماني سنوات .. وتم رفض غالبيتهم للانخراط بالقتال بعد عملية تقييم مضنية اعتبرتهم شديدي التطرف أو عناصر جريمة.” (18 أكتوبر الجاري).

        بالعودة للتقرب من ارهاصات القرار الأميركي بالانسحاب “المفاجيء” من تلك المنطقة الحيوية، استراتيجيا ًواقتصادياً، من سوريا ينبغي التوقف عند مجمل المشهد السياسي والصراع الدولي المحتدم في الإقليم على ضوء تداعيات الهجوم على منشآت أرامكو في شبه الجزيرة العربية وما برز من إخفاقات بل فشل الترسانة الأميركية المتطورة من رصد أو اعتراض قذائف صاروخية متواضعة الكلفة تكاد لا تذكر مقارنة بمنظومات الدفاع الجوي الأميركي المنتشرة هناك.

        القيادات العسكرية والاستخباراتية الأميركية أخذت علماً على الفور واستخلصت النتائج والدروس الضرورية أبرزها، وفق تصريحات بعض قادة البنتاغون، الإقرار بقصور التقنية الأميركية في مواجهة فعالة لتحديات شبيهة بما اختبرته في محيط أرامكو. وعليه، أضحى الوجود الأميركي في شمال شرق سوريا “محض لهو وعبث،” في ظل عدم استعداد صناع القرار الزج بقوات عسكرية كبيرة بعشرات الآلاف لا سيما وأن المعركة الانتخابية على الأبواب ونية الرئيس ترامب تسخير الانسحاب كانتصار لسياساته “الانكفائية” وتقليص رقعة انتشار القوات الأميركية.

        بالإضافة لعامل المواجهة السابقة مع إيران بإسقاطها أحدث طائرة درونز أميركية فوق مياه الخليج، وما نجم عنه من إعادة تقييم المؤسسة العسكرية والاستخباراتية لقدرات إيران وقرارها بامتصاص الضربة وعدم الرد؛ فضلاً عن الهزائم المتلاحقة التي تلقتها المجموعات المسلحة المدعومة أميركياً على أيدي القوات السورية.

        فيما يتعلق بالنخب السياسية والفكرية الأميركية، شرعت بمعظمها في شن حملة قاسية ضد قرار الانسحاب من سوريا، والأقلية الرصينة منها اتخذت منحىً ناقداً لمجمل السياسة الأميركية.

        أسبوعية فورين بوليسي أبرزت مثالب الاستراتيجية الأميركية قائلة “السياسة الأميركية تجاه سوريا كانت فاشلة لسنوات عديدة، والاستراتيجية الأميركية .. كانت مليئة بالمتناقضات ومن غير المرجح التعويل عليها في التوصل لنتائج أفضل بصرف النظرعن طول المدة الزمنية لإقامة القوات الأميركية.” (17 أكتوبر الجاري).

        بالنتيجة، كان من ضمن “أفضل” الخيارات المتاحة هو “خلط الأوراق وبعثرتها” بأسلوب جديد يعيد بهاء السمعة الأميركية والحفاظ على ما تبقى لها من مصالح استراتيجية في الإقليم.

        عززت واشنطن خيارها أعلاه بتفعيل “سلاح العقوبات” الاقتصادية بالتزامن مع العمليات السرية والخاصة التي تشرف عليها وكالة الاستخبارات المركزية – السي آي إيه – في المنطقة، وجدت أرضية خصبة في العراق وربما لبنان باستثمار الأوضاع المعيشية الصعبة لأغلبية قطاعات الشعب؛ وكذلك في “الإفراج” الإعلامي عن مخطط لاغتيال قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، ووقوع عدد من الخلايا السرية المنوطة بشن عمليات تخريب ضد الأنظمة المناوئة لواشنطن في الإقليم.

        انطوت تلك الخيارات على “توكيل” العضو في حلف الناتو، تركيا، القيام بمهام عسكرية تعيق تقدم القوات السورية وبسط سيادتها على كامل الجغرافيا السورية؛ والاتفاق المسبق معها بترتيب مرحلة “ملء الفراغ” ما بعد انسحاب القوات الأميركية، وترغيبها لأنقره بانتقاد حلفاء الأمس من الكرد بأنهم لم “يشاركوا واشنطن في إنزال النورماندي،” إبان الحرب العالمية الثانية.

        بالمقابل، موسكو لم تغب عن تلك الترتيبات الرامية لإخراج الوجود العسكري الأميركي محذرة أنقرة بأنه “.. لا يجوز التفكير بحدوث صدام بينها وبين الجيش التركي،” في المنطقة الحدودية مع سوريا، عززته بالإعلان عن توريدها شحنة جديدة من صواريخ “كاليبر” للمنطقة تزامناً مع تقدم الجيش العربي السوري في شمال البلاد.

        الحل، من وجهة نظر فورين بوليسي، يتمثل في إقرار واشنطن “بانتصار (الرئيس) الأسد والعمل مع أطراف أخرى معنية على استقرار الأوضاع هناك.” واستطردت بالإعراب عن خيبة أملها من ميول صناع القرار من الحزبين نظراً “لأن التوجهات الواقعية في السياسة الخارجية تشكل لعنة لدى الديموقراطيين والجمهوريين على السواء؛ والذين يروجون لعدم سحب أي جندي أميركي” من المنطقة.

        انكسارات الاستراتيجية الأميركية في سوريا، تحديداً، بدأت تجد آذاناً صاغية من بعض قطاعات المؤسسة الحاكمة، محاذرة عدم التعرض لمحاسبة القوى الحقيقية عن صوغ وتطبيق استراتيجية التدخل المفضلة.

        في معرض انتقادها لقررا انسحاب الرئيس ترامب، أكدت يومية نيويورك تايمز أن صناع القرار “وعدد من الأطراف بضمنهم الكرد أدركوا مبكراً عدم القدرة على تحقيق حلم الدولة الانفصالية، على المدى الطويل.” بل لم يكن الكرد في مواجهة “خطر تطهير عرقي،” كما درجت العادة في السابق.

أما الرئيس ترامب، من وجهة نظر الصحيفة ومؤيديها في مراكز القرار، فقد “حوّل شمالي سوريا الى عود ثقاب، ما لبث أن أضرم به النار.” (15 أكتوبر الجاري).

حسابات الربح والخسارة

     أبرز المتضررين من الانسحاب الأميركي وتداعياته الإقليمية هي تلك الأطراف التي احتضنت “هدف الانفصال الكردي،” طمعاً في إعادة تقسيم سوريا، وعلى رأسهم “إسرائيل” وذراعها من اللوبي المؤثر، إيباك، وقادة الكونغرس من الحزبين الذين سارعوا للتنديد بالرئيس الأميركي لتخليه عن “الحلفاء،” في ظل معادلات مواجهة دولية ضارية “مع روسيا والصين” تستدعي حشد أكبر عدد من الحلفاء.

        القوى الأميركية النافذة في صنع القرار، ومنها المؤسسات الإعلامية المتعددة، أعربت عن عدم ارتياحها ورفضها لقرار الانسحاب محملة الرئيس ترامب المسؤولية التامة لما سينجم عنه من تداعيات. بيد أن المعطيات المتوفرة تناقض سردية تفرد الرئيس ترامب بالقرار.التقى وزير الخارجية مايك بومبيو بوزير الخارجية الأسبق هنري كيسسنجر، يوم 28 أيلول الماضي، مع ملاحظة تجاهل وسائل الإعلام لتلك الحادثة، معرباً عن اغتباطه للقاء الأخير “والامتنان الدائم لمحادثته.”

        لم يفصح بومبيو عبر تغريدته في ذاك اليوم عما دار في الحديث، لكن المرجح أن سوريا والانسحاب الأميركي منها كان على رأس جدول الأعمال، عززه تزامن قرار الرئيس بالانسحاب بعد بضعة أيام من اللقاء المشار إليه.

        سياسات كيسنجر، في مجملها، تستند الى التركيز على الاحتفاظ بموازين القوى في الإطار الأوسع لصالح واشنطن، عند اتخاذ قرارات حاسمة تجنبها أي اهتزازات نتيجة صراعات محدودة.

        وعليه فإن الانسحاب الأميركي من سوريا، أو ذاك الجزء منها، وفق نظرية كيسنجر، يؤدي لإنشاء ميزان قوى جديد في الإقليم لمواجهة أفضل مع عدوها التقليدي – روسيا.

تبدو مراهنة كسينجر على تشكل وضع إقليمي تكون فيه كل من تركيا وايران وروسيا في حالات تنافس تعطل التفاهمات فيما بينهم خاصة بعد ان ينسحب الثقل الأميركي من المسرح الإقليمي وخاصة سوريا.

        مراكز القرار الأميركي، ممثلة بقادة الحزبين والمؤسسات الاستخباراتية والعسكرية، أعادت إلى الواجهة مصير “القنابل النووية الأميركية في قاعدة انجرليك التركية،” التي لا يمكن إطلاقها إلا عبر طائرات مقاتلة مخصصة، نظراً لتصاميمها القديمة منذ بدء الحرب الباردة، والتي تخطت ها الولايات المتحدة منذئذ بإطلاقها عبر الغواصات والصواريخ المجنحة.

        تحتفظ واشنطن بنحو 50 قنبلة نووية في أقبيتها المخصصة في القاعدة التركية، ولا زالت باقية هناك على الرغم من خشية بعض السياسيين الأميركيين باستخدامها كرهينة ووسيلة ضغط من قبل الرئيس التركي للحصول على تنازلات أميركية مُرضية.

        الرئيس الأميركي ترامب أعرب عن ارتياحه لسلامة الترسانة النووية الأميركية في تركيا، بتصريح علني يوم 16 أكتوبر الجاري، مما اعتبرته أركان المؤسسة الحاكمة بأنه “كشف عن معلومات سرية جداً،” كان ينبغي المحافظة على الضبابية المفضلة في السردية الرسمية.

        حلف الناتو، من جانبه، أعرب عن ازدواجية اغتباطه وخيبة أمله في آن من قرار الرئيس ترامب والهجوم التركي على مواقع المسلحين الكرد، وذلك على خلفية دعم الاتحاد الأوروبي بمجمله للمجموعات الكردية المنتشرة بكثافة في مختلف دوله، يعززها خلافاته المستعصية مع عضو الحلف تركيا.

        علاوة على ذلك، فالحلف منخرط بقوة في التعامل مع قرار بريطانيا الانسحاب من دول الاتحاد الأوروبي وعدم الحسم في مسألة عضوية إيرلندا الشمالية مع لندن، وليس لديه ما يضيفه في هذه المرحلة من استقلالية في القرار عن الموقف الأميركي العام.

        يشار إلى أن دول الحلف وقفت بقوة إلى جانب الرئيس التركي رجب طيب اردوغان دعماً لمساعيه “التوسط بين دمشق وتل أبيب،” عام 2008، لحل ملف هضبة الجولان. دمشق لم تبدِ حماساً لذاك التوجه نظراً لتوجسها من أهداف الجار الشمالي للعب دور محوري في الإقليم ولأطماعه في الأراضي والثروات الطبيعية في سوريا.

        كما يندرج تنظيم داعش، أو ما سمح لبقائه حياً، ضمن الأطراف المتضررة من الانسحاب الأميركي بخسارته لساحة تحرك وميدان مترامي الأطراف، على الرغم من توارد معلومات ميدانية متعددة تفيد بنقل القوات الجوية الأميركية لعناصر كبيرة من معتقلي التنظيم خارج منطقة “شرقي وادي الفرات” السورية، إلى قواعد أميركية خلفية في العراق.

        على الطرف المقابل فإن القوى المستفيدة، مباشرة وغير مباشرة، من الانكفاء الأميركي هي “حلف المقاومة .. وتعدد القطبية الدولية،” سوريا وإيران والمقاومة المسلحة بالتحالف مع روسيا، ومن ضمنها الصين.

        الأطراف المستفيدة من الانسحاب الأميركي أوجزتها فورين بوليسي، المشار اليها، بالقول “المستفيد الأكبر من المصائب الأميركية الأخيرة في الشرق الأوسط ليست روسيا أو إيران أو (الرئيس) الأسد – بل الصين.”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى