مقالات مختارة

سورية والغزو العثماني الجديد: د. عدنان منصور

العدوان التركي الواسع على الأراضي السورية، يحرّك من جديد ذاكرة شعوب المنطقة العربية، التي اختزنت في داخلها، كل المآسي التي تركها الاحتلال العثماني في بلادنا، وسُجل فيها حقبة سوداء في صفحات تاريخها، حيث لم نرث من المحتل العثماني إلا أبشع صور التنكيل والظلم والاستبداد والإذلال والجهل والفقر، وسَوقَ الوطنيين الأحرار إلى ساحات الإعدام.

 

هي تركيا اليوم، تستعيد الحقبة السوداء بغزوها الجديد لأرض بلاد الشام، غزو يقوده هذه المرة سلطان تركيا رجب طيب أردوغان.

إن الغزو التركي، وإقامة الحزام الآمن، سيجعل تركيا – بنظرها – تبسط سلطنتها على مساحة جغرافية واسعة، تتعدّى الألفي كلم، بعمق ثلاثين كلم وبطول يتجاوز الخمسين كلم. لتقوم بعد ذلك بفرض الأمر الواقع، وإيجاد حالة ديمغرافية جديدة في هذه المنطقة، بعد أن تقوم بإسكان مئات الآلاف من السوريين الموجودين حالياً في تركيا، والذين منحتهم أنقرة الجنسيّة التركية. بالإضافة إلى احتضانها لكل الفصائل الإرهابية المتشددة في محافظة إدلب وغيرها، والتي تلقى الدعم المتواصل من جيش الاحتلال التركي.

تركيا تدّعي أنها تريد تأمين حدودها وأرضها من الإرهابيين المنتمين إلى حزب العمال الكردستاني وغيره، والذين يقومون بعمليات داخل تركيا. فأي أمن تبحث عنه تركيا، وهي التي كانت السبب المباشر في كل ما يجري من تطورات في الشمال السوري منذ عام 2011 وحتى اليوم؟! فقبل اندلاع الأحداث في سورية عام 2011، كانت العلاقات السورية – التركية في أحسن حالاتها، ولم يُسجّل على مدى سنوات منذ عام 1998 أي عملية عسكرية انطلقت من الأراضي السورية، بل على العكس، استطاعت سورية أن تضبط حدودها بشكل لافت، لم تسجل خلالها تركيا أي ملاحظة على الوضع الأمني على طول الحدود السورية – التركية. لكن تركيا هي التي جلبت لنفسها العمليات العسكرية الكردية ضدها، منذ أن تدخلت بشكل سافر وأقحمت نفسها في الشأن السوري، وكانت رأس الحربة للمعارضة السورية بكل أشكالها الإرهابية وغير الإرهابية، جاعلة أرضها ممراً لكل فصائل القتل القادمة من أنحاء العالم إلى سورية، مقدمةً كافة التسهيلات والدعم اللوجستي والعسكري والاستخباري والأمني، فكُشفت الحدود، ولم يعد بمقدور تركيا منع المتسللين إليها من الفصائل العسكرية الكردية، لتضرب في الداخل التركي.

إنّ تورط تركيا وانغماسها في الأحداث السورية، أوصلتها إلى ما هي عليه اليوم، حيث كانت مع بعض العرب المتآمرين على النظام والدولة السورية ورئيسها تريد قلب النظام والإطاحة به، علّها تستعيد دورها ووجودها ونفوذها الماضي الذي انطفأ نهائياً عام 1918.

أليست تركيا هي التي حضّرت خطة قبيل أحداث جسر الشغور لإقامة منطقة عازلة على الحدود داخل الأراضي السورية لتجميع النازحين السوريين المتوقع نزوحهم من جسر الثغور والمنطقة المجاورة؟

أليست تركيا التي طلبت يوم 9 آب 2011 بعد زيارة وزير خارجيتها داود أوغلو لسورية واجتماعه بالرئيس بشار الأسد، بموجب ورقة عمل تطلب فيها إعلام سورية خلال 48 ساعة من انتهاء الزيارة تلتزم فيه تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية في سورية خلال ثلاثة أشهر، مما يشكل نوعاً من الأوامر والتدخل السافر في الشأن السوري؟!

أليس إقحام تركيا وزجّ نفسها في الأحداث، حملت داود أوغلو للتصريح أثناء زيارته بالقول: إن الظروف شاءت أن تشهد في سنة واحدة العلاقات السورية التركية في أوجها، وكذلك في مستواها المنخفض ، مضيفاً أن تركيا لا يهمها الأنظمة بقدر ما يهمها الشعوب؟!

أليست تركيا أول مَن احتضن في شهر حزيران 2011 أول اجتماع للمعارضة السورية في أنطاكيا، أي بعد ثلاثة أشهر من اندلاع الأحداث؟! لتقوم بعد ذلك بتصعيد لهجتها ضد سورية وصولاً إلى القطيعة النهائية في آب 2011، والعمل بعد ذلك على تقديم الدعم الكامل للعناصر المسلحة من الجيش السوري الحر على الأراضي التركية؟! لم تكتفِ تركيا بهذا القدر، بل اتخذت في شهر تشرين الثاني 2011 إجراءات فرضت خلالها عقوبات اقتصادية ومالية، وتجميد التحويلات المالية إلى سورية ووقف التعاملات بين المصرف المركزي التركي والمصرف المركزي السوري، وذلك بغية حمل الرئيس الأسد على التفاوض مع المعارضة السورية. بهذه الإجراءات تضرر قطاع النقل، والسياحة لدول الجوار، وأيضاً تضررت الصادرات التركية لسورية لتهبط كثيراً أثناء سنوات الحرب بعد أن بلغت عام 2010 ملياراً وثمانمئة وخمسة وأربعين مليون دولار.

لم تتوقف تركيا عن العمل على تغيير النظام السوري، إذ أرادت في شهر نيسان 2012 تحريك الأمم المتحدة والحلف الأطلسي كي تضع الأزمة السورية في إطارها الدولي، حيث أعلن رئيس وزراء تركيا أردوغان في منتصف آذار 2012، أن من بين الخيارات التي يجب على الحلف الأطلسي أن يأخذها بالاعتبار: منطقة آمنة ومنطقة عازلة.

تركيا التي حافظت على سياسة خارجية لعقد من الزمن، اتسمت بالموضوعية وتصفير المشاكل مع جيرانها، سقطت في فخ الربيع العربي . ظناً منها أن حركات التغيير المزعوم التي تشهدها دول عربية، ستؤمّن وصول الإسلاميين المعتدلين إلى الحكم، وتعزّز من نجاح التجربة التركية وتتقاطع مع الشعار المرفوع: الإسلام هو الحل . لكن الوقائع على الأرض أثبتت أن ما كانت تتطلع إليه أنقرة، قد سقط في تونس وليبيا، ومصر وسورية. فتركيا التي كانت تتصور أنها ستكون المثل والمعيار، وصاحبة الحل والعقد في الشرق الأوسط، عرفت مدى الهوّة التي هي فيها بالنسبة للأزمة السورية بعد ثماني سنوات من الحرب الدائرة فيها.

لم تتوقف تركيا عن بذل كل ما في وسعها من أجل إسقاط النظام السوري. فخلال الربع الأول من عام 2014 حجبت السلطات التركية موقع اليوتيوب عن الجمهور لفترة، لمنع تداول محادثة على نطاق واسع، الـتُـقطت بين وزير الخارجية التركي داود أوغلو، ورئيس الاستخبارات التركية حقان فيدان، حيث سُمع يتحدّث الاثنان عن ضربة عسكرية ضد سورية.

وبعد سيطرة الفصائل الإرهابية – داعش والنصرة – على أجزاء واسعة من شمال سورية وشرقها وجنوبها وريف دمشق، نجد أن تركيا رفضت الانخراط في التحالف الدولي للمشاركة في العمليات العسكرية ضد الإرهابيين، حتى لا تصب هذه العمليات – بنظرها – في مصلحة النظام السوري ومصلحة الكرد بالذات. كما رفضت طوال سنوات وضع قاعدة انجرليك في جنوب تركيا بتصرف التحالف الدولي كي تنطلق الطائرات الحربية منها لضرب المواقع العسكرية لداعش.

هي تركيا اليوم بعدوانها السافر، واحتلالها لأراضي سورية، تريد فصل كرد سورية عن كرد تركيا بحزام سوري تحتله. مستفيدة من حمق وغباء الكرد ورهانهم الخاطئ على الآخرين، ومستفيدة أيضاً من تقاطع المصالح بين الدول الفاعلة على الأرض.

لا يهم تركيا بعد إقامة الحزام العازل، ما يفعله الكرد حيال الدولة السورية وحيال أنفسهم، وإزاء مَن تحالفوا معهم. ولا يهمها خروج عشرات الآلاف من إرهابيي داعش من سجون قوات سورية الديمقراطية قسد ليعيثوا في الأرض القتل والدمار.

إن فصل كرد سورية جغرافياً وميدانياً ولوجستياً عن كرد تركيا هو مطلب تركيا، ولا شك في أن الحزام الأمني الجغرافي يحتوي على ثروات كبيرة من النفط والغاز، مما يتيح لتركيا مستقبلاً استغلال الثروات الكامنة، وهي الباسطة سلطتها أيضاً على محافظة إدلب والحاضنة للفصائل الإرهابية داخلها.

ليفهم الكرد ولو لمرة واحدة، أن الدولة الكردية التي يسعون إلى إقامتها تصطدم بعوامل خارجية تتجاوز طموحاتهم ورغباتهم. فلا مجال أمام أي دولة في المنطقة، أكان في سورية أو العراق أو تركيا أو إيران للتفريط بوحدة الأرض أو القبول بالتفريط بالسيادة والوحدة والجغرافيا. فبعد كل الحروب التي خاضها الكرد من أجل الانفصال وإقامة دولتهم، على مدى أكثر من نصف قرن، لم يدركوا بعد أن الخيار السليم هو العيش في كنف الدولة أكان ذلك في سورية أو إيران أو العراق أو غيرها، وعليهم أن يتخلوا عن فكرة الانفصال. إن مستقبل كرد سورية ليس عند الأميركان، الذين يضحّون بهم عند أول مفترق طريق. مستقبلهم في إطار الدولة السورية الواحدة الموحدة، وهم ليسوا إلا وقوداً وأداةً يستخدمها الأميركي والإسرائيلي لتحقيق مصالحه، فإذا ما تعارضت مصلحته مع مصلحة الكرد، لن يكونوا إلا مثل غيرهم من المراهنين عليه، كبش فداء.

إن كان للكرد من حقوق، فلتكن داخل الدولة وبالحوار وليس بالحرب. إنها فرصتهم الذهبية للعودة إلى الشرعية، وليبدأ بعد ذلك مسار جديد لمواجهة الاحتلال التركي بكل الوسائل المتاحة، الذي يهدّد أمن وسيادة واستقرار ووحدة سورية ومستقبل شعبها، بعربها وكردها، كما يهدد أمن واستقرار المنطقة كلها.

هل يتّعظ الكرد وهم في منعطف خطير قبل فوات الأوان؟! وأما سورية فليس لها من خيار في نهاية المطاف، إلا مواجهة الغزو العثماني الجديد الذي كشف عن وجهه البشع منذ عام 2011 ولا زال مستمراً حتى اليوم.

(البناء)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى