حصاد الوصفات الأميركية المدمرة
غالب قنديل
بمشورة مجموعات اميركية واوروبية وضعت الخطط والخرائط كان القرار السياسي المحسوم في منهجية حكم ما بعد الطائف رفض إحياء السكك الحديد والقطارات التي حذفت من جميع مشاريع الإعمار ومن ملفات الحكومات المتعاقبة التي وضعت بقايا سكة الحديد قيد التصفية وأجهزت على بقايا النقل المشترك لصالح شركات النقل المحلية الخاصة في حين تم رفض العديد من العروض المغرية لإحياء مصفاتي النفط في طرابلس والزهراني.
منذ حوالي أربعين عاما وبتوصية اميركية جرت خصخصة قطاع المحروقات بالتزامن مع رفع الدعم تحت شعار معالجة عجز الخزينة وخفض الأعباء الحكومية (!) عملا بتوصيات صندوق النقد الدولي المواكبة لتعميم موجة النيوليبرالية الأميركية وتم تقاسم القطاع على قواعد التوزيع السياسي والطائفي للحصص وهكذا ظهرت شركات استيراد وتوزيع تحتكر السوق وتتحكم بالأسعار وبينما تركت مصفاتا النفط للصدأ والتلف تم استثمار الخزانات لصالح الشركات ومستورداتها وسمح للتكتل الاحتكاري بإدارة السوق وتعاملت معه الحكومات المتعاقبة بتقديم التسهيلات والحماية بدون أي حرج ومن غير أي ضوابط ناظمة تراعي المصالح العامة التي تفترض اولا منع أي تجمع احتكاري ومن حيث المبدأ.
شبكة السكك الحديد والقطارات كانت ستعيد هيكلة تجمعات العمران والسكن اللبنانية وتقرب الأرياف من المدن وهي ربما تسهم في عكس اتجاه الهجرة التقليدية من الريف إلى مراكز المحافظات والعاصمة إضافة إلى ما تتيحه من تأثير حاسم على القطاع العقاري الذي تعرض لانتفاخ ريعي قياسي لمواكبة التمركز السكاني كما تسمح القطارات بتواصل سريع مع العواصم الإقليمية المجاورة أي مع دمشق وبغداد سواء لانتقال الأفراد ام البضائع في الاتجاهين.
كان المطلوب منع تلك التحولات لإحكام ربط البلد بحبل الصرة الغربي والحفاظ على مصالح الشركات الغربية ومع تدمير سكة الحديد والنقل المشترك تحول اللبنانيون إلى شراء السيارات وحولوا البلد إلى كاراج متضخم مع كل ما يحيط به من استهلاك للمحروقات تدر أرباحا على الكارتيل الاحتكاري وما رافق التمركز السكاني الذي تضخم بقوة من نشوة عقارية ومصرفية متعددة المستويات.
الخاسر من هذه التحولات هو الفئات الوسطى والفقيرة والرابح هي الشرائح الريعية المرتبطة بالغرب من الوكلاء والتجار وملاكي العقارات والمصارف وهذه عينة من الوصفات الأميركية التي تقيد بها المسؤولون طيلة العقود الماضية واستلهموا منها نموذجا للتبعية المحكمة على حساب أي أثر للقطاع العام الذي حولته اللغة الأميركية النيوليبرالية التي اجترها بعض الكتبة اللبنانيين المبهورين إلى شتيمة في وجه الحكومات لتحريم أي خطوة تستند إلى مفهوم الخدمة العامة والقطاع العام الذي جرى تهميشه وتحويله إلى مستودع تنفيعات توظيف وتلزيمات وهو اليوم مستهدف بوصفات الريجيم الدولي لمؤتمر سيدر.
تعد المصافي قطاعا إنتاجيا مربحا في جميع دول العالم وهي قطاع ضخم في الولايات المتحدة نفسها وقد قام في لبنان خلال هيمنة الانتداب الاستعماري البريطاني والفرنسي في الشرق العربي فقد أنشئت مصفاتا الزهراني وطرابلس بناء على ميزة الشحن البحري في حوض المتوسط وملاءمتها من حيث الوقت والكلفة لنقل إمدادات النفط والمشتقات النفطية وقد استندت إلى قيام الشركات الأجنبية بمد انبوبي نفط واحد من العراق والثاني من شبه الجزيرة العربية وقد أسقط هذا الملف نهائيا وحذف لصالح التقاسم الريعي واستتباع لبنان بعدما مهدت له تدابير تعطيل المصفاتين واعتماد السوق اللبناني على الاستيراد منذ رفع الدعم الحكومي عن المحروقات.
المصافي وسكك الحديد ضحيتان لنظام التقاسم الريعي ودليل إثبات على ان ما يعيشه اللبنانيون اليوم هو نتيجة لخطة مسبقة وضعت قبل عقود في غرف تخطيط محكمة لفرض التبعية ولتهميش أي قطاع منتج قد ينطوي على تغذية نزعة الاستقلال والمقاومة وتم تجريع الخطة للناس على دفعات مغلفة بكمية من الأكاذيب والوعود الخادعة التي لم يتحقق منها شيء.