ليس كل ما يلمع ذهبا
غالب قنديل
بعد كل ما جرى في المنطقة العربية والعالم من أحداث و”ثورات” خلال الثلاثين عاما الماضية تفرض الفطنة والحكمة والخبرة التدقيق في قلب الظواهر والتحركات وتخطي الأغلفة التسويقية بالنفاذ إلى جوهرها ودوافعها وسياقاتها.
تستغرق جهات عديدة بنواياها الحسنة في سذاجة الانسياق خلف سحر وجاذبية المشاهد الشعبية الفوارة والمشحونة بدلا من محاولة التعرف الفعلي إلى الأسباب المحركة والقوى الفعلية التي تستثمر حوافز الناس وأوجاعهم وسخطهم المتعاظم لتقودهم إلى تحقيق أهدافها الخاصة ولتدفعهم بعد ذلك في غياهب الخيبات الثقيلة.
لقد سقطت بالتجربة التاريخية نزعة تقديس العفوية التي طغت في التعامل مع احداث ما سمي بالربيع العربي التي اجتاحت العديد من بلداننا وتكشفت عن ويل عظيم استثمرت فيه قوى الاستعمار الغربي لتجديد هيمنتها ومواصلة نهب الثروات والسيطرة على الأسواق ومن غير زحزحة المشكلات العديدة المتراكمة عبر عقود على صدور الفئات الشعبية الساخطة التي تدفقت في بعض الشوارع تبعثر احلامها في الانعتاق من دوامة معاناة وقمع ونهب وتبعية فتحولت إلى وقود مهدور في احداث لا تخدم مصالحها الوطنية والاجتماعية وحصد الناس مراكمة المزيد من الإحباط والخيبة.
كشفت سورية بالتجربة الحية الوجه التدميري البشع والمتوحش لذك الربيع المزعوم بقدرة دولتها الوطنية على الصمود ولأنها قطب التناقض الرئيسي مع الحلف الاستعاري الصهيوني الرجعي القادر على إسقاط الأقنعة بهويته التحررية المقاومة وقد تكشفت بالوقائع حقيقة القوى التي تراصفت في واجهات معارضة يديرها الاستعمار الغربي وعملاؤه في المنطقة بينما طغى على الأرض انفلات جيوش التكفير والإرهاب وخليط متعدد الجنسيات من القتلة الماجورين والجيوش الغازية.
العبرة من التجربة السورية وسواها هي أن المعيار الرئيسي للموقف من أي تحرك سياسي او شعبي هو انتماؤه الواضح إلى خيار التحرر الوطني من الهيمنة الاستعمارية وحزمه في تبني قضية الاستقلال ومقاومة الحلف الاستعماري الصهيوني الرجعي وكل تحرك او موقف لا يبنى على هذه القاعدة الصلبة يحتمل الشبهة حكما ويقبل التأويل والتجيير لصالح الجهات الخارجية والداخلية الراغبة وصاحبة المصلحة فإما ان يلاقي طموحا محليا بتحسين شروط التقاسم الريعي في السلطة او يحاكي ضغوطا أميركية صهيونية رجعية واضحة ومعلنة لكسر الإرادة الاستقلالية الوطنية لقوى حلف المقاومة والتحرر الذي يعتبر العدو الرئيسي للمعسكر الاستعماري الصهيوني الرجعي بقيادة الولايات المتحدة.
لقد برهنت الأحداث على تبلور آليات تدخل استعمارية جديدة تتلبس أقنعة شعبية من خلال نموذجي الثورات الملونة والربيع العربي وعبر كيانات يسميها المخططون الأميركيون بمنظمات المجتمع المدني ووضعت في تصرف تلك الشبكات قدرات كبيرة وإمكانات هائلة ومهارات ترويجية وتقنيات متقدمة لجذب الناس بعيدا عن قضايا التحرر الوطني لبلدانهم وهكذا رسمت اولويات باتت شائعة ومعتمدة لدى العديد من الحركات السياسية العربية فحبكت نسيجا محكما لشرنقة التضليل تحت نير الهيمنة الاستعمارية والتبعية الذليلة بأوهام الحداثة والدولة “الحديثة” المزعومة و”الحوكمة الرشيدة” وسائر الوصفات السياسية والاقتصادية التي لا تمس اخطبوط النهب الاستعماري .
من يدعو الناس إلى الثورة في العراق الحالي لأي دافع مفهوم ومشروع بسبب تضخم منظومة النهب الشرس او نتيجة البطالة كيف لا “ينتبه” إلى استمرار الاحتلال الأميركي والقواعد العسكرية الأميركية وأخطبوط العملاء والتوابع المحصنين داخل السلطة والإدارة والقوى العسكرية والأمنية بل وفي صلب الدستور الذي وضعه الحاكم الاستعماري بريمر؟ وكيف لا”ينتبه” إلى المعركة الطاحنة بين محوري الهيمنة والتحرر على مستوى المنطقة والعراق في قلبها؟ فمن هنا يبدأ أي تفكير تغييري حقيقي.
ومن يدعو الناس إلى الاحتجاج والثورة في لبنان ضد البطالة والهجرة واللصوصية ولا يلتفت إلى دور الوصاية الأميركية والعدوان الصهيوني في استنزاف البلد واستهدافه يمارس تضليلا اكيدا قابلا للتوظيف في مشاريع غير وطنية وهذه هي القاعدة العلمية لصياغة موقف وطني مما يدور حولنا بناء على خبرة التجارب وبعيدا عن سحر الأغلفة الترويجية الهادفة فليس كل ما يلمع ذهبا كما قيل قديما.