بقلم ناصر قنديل

هذه مسؤوليّة حزب الله والتيار الوطني الحر: ناصر قنديل

عندما يكون البلد على شفا الانهيار سياسياً ووطنياً واقتصادياً ومالياً، وفي قلب منطقة تلعب بها العواصف وتهدّدها الزلازل، وتملك كل دولة من دوله المحورية منسوباً من التأقلم معها أو خططاً لمواجهتها، انطلاقاً من خصوصية تركيبة نظام الحكم في كل منها وطريقة اتخاذ القرارات الكبرى فيه، يبدو لبنان تائهاً في صحراء العجز عن امتلاك خطة، وهو الذي يطلق في المنطقة أكبر مشروعين طموحين، مشروع استنهاض المسيحية المشرقية كمشروع وطني وقومي ينهي مراحل الرهانات الغربية والصهيونية على دور المسيحيين، ومشروع المقاومة الشعبية والمسلحة كمشروع وطني وإقليمي يشكل رأس الحربة والقيمة المضافة، والطليعة المتقدّمة لحركة الشعوب ونبضها الرافض دوماً لمشروع الهيمنة والعدوان والاحتلال، رغم المعاناة الفكرية ومشاريع غسل الأدمغة بالمذهبيات والمؤسسات الإعلامية العملاقة.

 

تلعب صيغة النظام اللبناني القائم على الطائفية ومن خلالها على التوافقية، دوراً في تفسير هذا التخبّط، وتلعب الشبابيك اللبنانية المفتوحة على الرياح الآتية من كل الجهات الخارجية دوراً فاعلاً في فرض هذا التيه وجعله هدفاً. ويلعب أكثر أن المشروع الأميركي الإسرائيلي السعودي الذي فقد القدرة على استخدام سلاح الحرب، يدرك أهمية لبنان ومشروعيه التاريخيين الطموحين، ويدرك أهمية تعطيله في خلق توازنات تناسب حاجته لالتقاط الأنفاس، والتأسيس لمحاولات جديدة ترتكز على تجميع أوراق التفاوض، وبدلاً من أن يكون لبنان في موفع القوة يتحول ساحة تفاوضية، يشكل ضياعه وعجزه عن متلاك خطة، هدفاً بحد ذاته، ليصير الإفراج عن الاستقرار السياسي والاقتصادي في لبنان مكسباً علينا دفع أثمانه من عناوين أخرى.

من ينظر إلى عناوين النقاش التي تطفو على سطح السياسة والملفات الاقتصادية في لبنان يتيقن أن البلاد في تيه وضياع. فالحديث في السياسة لم يعد فيه سوى نغمات النشاز الطائفي وتلاطم أمواجها، من ملف مباريات مجلس الخدمة المدنية والفائزين فيها، إلى ملفات مشاريع الخدمات المناطقية ولغة التخاطب «اللادَوْلي» حولها. وكل الحديث عن رؤى وخطط كبرى لمعالجة الوضعين الاقتصادي والمالي يتساقط شظايا عند أسوار مشكلات صغيرة تفضح الفشل العظيم الذي تعيشه الدولة بكل مكوّناتها في مواجهة هذا التحدي، من أزمة البنزين إلى غياب العملات الصعبة من شبابيك البنوك وهروبها إلى شبابيك الصرافين.

في البلد قوتان كبيرتان واحدة تحمل مشروع النهضة المسيحية المشرقية وتتبوأ سدة رئاسة الجمهورية، وتقف خلفها أكبر كتلتين نيابيتين ووزاريتين. والثانية تملك حضور مقاومتها النبيلة وحجم تأثيرها في علاقات وتحالفات راسخة في الداخل والخارج، ومكانة حاسمة في رسم صورة المنطقة وليس لبنان وحسب، وبين القوتين تفاهم استراتيجي صادق وحرص حقيقي على حمايته، وقدرة على إدارة خطة مواجهة مع التحديات، إذا امتلكتا القدرة على التفاهم على عناوينها، أو إذا بذلتا جهداً حقيقياً لامتلاكها، ولكل منهما قدرة تأثير وتفاهمات وتحالفات تجعل ما يتفقان عليه قابلاً للتحوّل إلى مشروع وطني يصعب أن يجد من يقف في طريقه، ليس بفعل حجم قوة الفريقين وحسب، بل الأهم لأن الخلافات التي يجب على الحليفين حلها بينهما، حول عناوين لا بد من معالجتها في أي مشروع خطة، تختصر ما يمكن أن يوصف بالخلافات بين أي منهما والآخر، أي آخر وكل آخر، في السياسة اللبنانية.

المشكلة أن حزب الله لا يتصرف تجاه تنامي الخطاب الطائفي الذي يجتاح جمهور التيار الوطني الحر في كثير من قضايا السياسة اللبنانية، ويستنهض جمهوره على أساسه، بصفته أمراً مقلقاً، بل ربما يراه أحياناً طريقاً مشروعاً لشدّ عصب الشارع الذي يرتكز عليه التيار بوجه خصومه وخصوم حزب الله معاً. فيما لا يرى التيار في تطوير التفاهم القائم بينه وبين حزب الله لوضع تصور للنظام السياسي والاقتصادي الجديد، ومصير العهد يتوقف على هذا الإنجاز، وقد بلغ التيار قمة ما يطمح إليه تيار في مسيرته السياسية، والفشل سيكون مدوياً وتاريخياً يصعب النهوض من بعده. والحزب والتيار قد بلغا في مشروعهما المشترك لحظات امتحان تاريخية ربما، وأولوية المهام الملقاة على عاتقهما اليوم تستحق بلورة إطار طوارئ سياسية واقتصادية لمكوّني التفاهم الرئيسي في البلد، قبل البحث عن خطة طوارئ للبلد نفسه، والشريكان لا ينتبهان أن الفشل بعد هذه اللحظة التاريخية والمفصلية في ترجمة آمال اللبنانيين حول ما يستطيعان فعله، سيدخل الشارع في إحباط، شارع كل منهما والشارع المؤيد لتحالفهما، والشارع اللبناني بكل أطيافه. فلبنان الذي لا يعرف صياغة العلاقة المسيحية الإسلامية تحت سقف الطائف بلغة موحدة يتضمنها تفاهم واضح بين هاتين الكبيرتين، في ذروة صعودهما وإعلانهما توجيه كل الجهد والاهتمام نحو بناء الدولة، لن يعرف ذلك مطلقاً. ولبنان الذي لن يعرف خريطة طريق لمواجهة التحديات الاقتصادية والمالية أي القدرة على امتلاك خطة إصلاح للدولة وسياساتها في ظل تبوء قوتين إصلاحيتين كبيرتين المكانة الحاسمة في رسم السياسات وقيادة مشروع الدولة، هو لبنان الذي لا أمل فيه ببلوغ هذه اللحظة في الشأن الوطني وكذلك في شأن إصلاح الدولة بكل ببساطة.

بالمياومة في إدارة ملفي الحال الطائفية، والتحديات المالية، وكل منهما حرب مبرمجة تتلاعب باللبنانيين ويظنانها قادة ومواطنين تعبيرات عفوية أو طبيعية قابلة للتعايش، ستتراكم كتل طينية من الطمي الفوضوي والعشوائي الذي يتكفل بمحو معالم الكثير مما قد نظنه علامات ثابتة وشواهد تاريخية تصنع وتحمي ثوابت الاطمئنان والثقة. فالتشقق اللبناني والفقر معاً وصفة مضمونة للفوضى السياسية والشعبية ولاحقاً الأمنية. وهي بالضبط حصان طروادة المطلوب لاختراق القلعة، وتركها تتخبط في صحراء الضياع، ولا يكفي في الجواب أن يعيش حزب الله لحظات الإشراف على إطلالة بشائر النصر العظيم الذي يحققه محور المقاومة في المنطقة، وللحزب يد ودور ومكانة في هذا النصر، بينما جمهوره يلتظى بنيران الفقر ويقارب مراحل الكفر. كما لا يكفي أن يحتفل التيار الوطني الحر بإنجاز أكاديمية الإنسان للتلاقي والحوار من أعلى منصة أممية، واعتماد لبنان مقراً لها بمبادرة من زعيمه ومؤسسه رئيس الجمهورية، فيما جمهوره يعيش أشد مناخات التجييش الطائفي. وعلى قيادة الحزب والتيار إدراك أن لبنان يقف على شفا انهيار اقتصادي، وحرب أهلية باردة، قبل فوات الأوان، وإلا صح فينا قول البصريين الشائع للخليفة المتوكل الذي دخلت جيوشه البصرة وأنهت التمرّد الذي أدى إلى خرابها، «ما ينفع النصر بعد خراب البصرة»، أو قول العراقيين بعد رؤيتهم لهول ما حل بالبصرة «ما تنفع الحسرة بعد خراب البصرة».

اللهم اشهد أني قد بلّغت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى