المشهد اللبناني السوريالي
غالب قنديل
لم يطمئن حاكم مصرف لبنان أيا من المواطنين العاديين عندما قال أمس إن الدولارات موجودة لدى البنوك وإن الصرافين شيء مختلف عن المصارف وإن مصرف لبنان لديه احتياط كاف من الموجودات بالدولار وهو فصل نظريا بين مشهدين من الدورة المالية اليومية هما المشهد الدفتري في عمليات البنوك الورقية فعليا وهي تغطي حركات تحويل وتحريك لأرصدة واعتمادات بالمليارات ومشهد آلات البطاقات البنكية الذكية التي لم تعد تسمح بسحب الدولارات وتلبي طلبات المودعين بالعملة اللبنانية وحدها.
يسمع المواطن العادي أيضا أن تسعيرة يومية للدولار عند الصرافين ترتفع تدريجيا وقد باتت متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام وهي منسوبة إلى المصرف المركزي كما يقال للناس عبر وسائل الإعلام ان شحا خطيرا في النقد الأجنبي بات يحكم الأسواق بسبب تراجع التحويلات المالية من الخارج سواء نتيجة العقوبات الأميركية التي تطارد المغتربين او بفعل الركود العالمي العام وانكفاء التمويل السياسي لقوى واطراف لبنانية عديدة وهذا ما يتصل بشكوى أصحاب محطات المحروقات الملزمين بتسديد فواتير سحوباتهم من الشركات التي تهيمن على قطاع النفط بالدولار بينما هم يبيعون إلى المستهلك بالليرة اللبنانية وبناء على تسعيرة تقررها وزارة الطاقة وحيث يتكبدون خسائر فعلية.
يزيد المشهد السوريالي تعقيدا في ذهن المواطن المسكين عندما يسمع قصة شراء مبنى لشركة تملكها الدولة في وسط بيروت بعشرات ملايين الدولارات بينما يناشد المسؤولون هذا المواطن المسكين بالتقشف وبشد حزامه على ليراته التي لم تعد تشتري له من الأسواق ما كانت تكفي للحصول عليه سابقا وهو مسكون بخوف شديد من خفض اجره او راتبه او حتى صرفه من العمل سواء كان يعمل في القطاع الخاص ام القطاع العام الذي يقال إنه سيشهد تشحيلا “لفوائض بشرية” كثيرة بناء على وصفة الريجيم المتفق عليها في سيدر وفي توصيات البنك الدولي وصندوق الدولي وعنوانها “ترشيق الدولة”.
وبالسمع والقراءة واحيانا بالصدفة تعرف هذا المواطن اللبناني إلى هندسات مالية قيل إنها كانت صفقات مالية “ذكية”اجراها مصرف لبنان ودعم بها مالية شركات ومؤسسات جاء في تقارير صحافية انها تخص جهات سياسية وهذا المواطن لايفهم كيف يهندسون المال العام لصالح فلان وعلان ولاهندسة للمال مثلا لصالح المؤسسة العامة للإسكان التي اوقفت قروضها وبات الشباب العازمون على الزواج في حيص وبيص لايعرفون ما يفعلون لتدبر امور السكن.
وما يحير الناس العاديين والبسطاء هو ان البيع والشراء بالدولار داخل البلد دارج ومعتمد منذ اكثر من خمسة وعشرين عاما ولايقول لهم احد من المسؤولين والخبراء لماذا ظهرت في هذا التوقيت مشكلة فروق سعر الصرف المتحرك وهي حاضرة في كل شاردة وواردة ولا شيء يضمن عدم انتقالها من البنزين إلى الأدوية والخضار والفواكه والمواد الغذائية وانعكاسها ارتفاعا جديدا في الأسعار في سوق فالت من أي رقابة جدية رغم العراضات التلفزيونية المتقطعة والمتباعدة.
الغريب العجيب ان ذلك كله يترافق مع تصعيد العقوبات الأميركية التي يطمئن المصرف المركزي إلى كونها محصورة بمن تريد الولايات المتحدة أن تعاقبهم لتؤدبهم وهم متهمون بدعم المقاومة ماليا وعينيا أيضا ( وهذا تعبير أضافه المفوض الاستعماري وهو قد يشمل أي شيء يتبرع به أي لبناني او لبنانية لدعم المقاومة وعائلات شهدائها وجرحاها ) ومع الترويج للإذعان وإبداء الطاعة في حضرة السيد الأميركي لم يقل احد حرفا عن فضيحة تبرئة البنك اللبناني الكندي بعد قتله بينما صرح المفوض الاستعماري بللنغسلي يوم امس انه جاء ليتاكد من تصفية بنك الجمال وقد هدد مزيدا من الجهات والمؤسسات اللبنانية بتدابير قاتلة من اجل خنق المقاومة وتقول خبرة التجربة البسيطة ان تحقيق تلك الغاية سيعني تشريع أبواب لبنان على غزوات صهيونية تحرق الأخضر واليابس وعمليات تكفيرية لاتستثني احدا ولم تكن الولايات المتحدة بعيدة عن حصاد الويل والخراب والموت الذي خلفه كل ذلك في لبنان طيلة العقود الماضية.
الابتسامات البلهاء لا تطمئن عقولا تشغلها الوساوس مهما بالغ القادة والزعماء في الرهان على ثبات الولاء بفضل العصبيات التي يمسكون طرفها المشدود ويهزونها ساعة يشاؤون لكن حتى الساعة هم مطمئنون لأن الإذعان الشعبي سيد الموقف والتمرد حشرجات مخنوقة وهمس نقاقين في جلسات سمر لبنانية او نداء حالمين تائهين عن البوصلة الفعلية وفيها اول الطريق ومفتاح اللغز هو مشروع وطني للتحرر من تلك الوصاية الخانقة وللدفاع عن المقاومة ورد الاعتبار لكل ماهو وطني بدءا بالموز والبندورة والتفاح والتبغ والشمندر والليرة اللبنانية ونهر الليطاني.