مؤتمر الأفق الجديد: نظريّة لجبهة عالميّة للمواجهة؟: ناصر قنديل
– تستضيف بيروت مؤتمراً يحمل اسم الأفق الجديد، سبق وعقد له دورات عدة، لكن دورته الراهنة تتسم بمعانٍ جديدة لكونه يأتي متزامناً مع تغيّر معادلات القوة بين محور واشنطن وحلفائها من جهة، ومحور موسكو وطهران وحلفائهما من جهة مقابلة، ولكونه يتخذ من بيروت عاصمة المقاومة مقراً لانعقاده. والمؤتمر الذي يضم باحثين أميركيين مناهضين للعولمة المتوحشة، ومفكرين أوروبيين وغربيين ينتمون لمعسكر رفض الحروب ويصطفّ أغلبهم على ضفة دعم القضية الفلسطينية، يتميّز بمشاركة أحد أبرز المنظرين الروس للحقبة الجديدة، ألكسندر دوغين، الذي يصفه الكثيرون في الغرب بفيلسوف مرحلة بوتين، وداعية فكر أرثوذكسي روسي قومي إمبراطوري، بالإضافة لرئيس المؤتمر الكاتب والمخرج الإيراني نادر طالب زادة، فيما يسجل غياب مشاركة صينية وهندية وجنوب أفريقية عن المؤتمر.
– المؤتمر الذي يبدو من مشاركيه أنه ينتمي لمرحلة تحشيد أصوات مناهضة للهيمنة الأميركية والمشروع الصهيوني في فلسطين، مهيأ إذا أُحسِن اكتشاف دوره للتحوّل إلى منصة لإنتاج نظرية فكرية سياسية للجبهة العالمية للمواجهة مع المشروع الأميركي وتفرّعاته، وهي وظيفة أشد أهمية من صوت إعلاميّ مندّد بالسياسات الأميركية والصهيونية، لأن هذه المواجهة التي بدأت تحقق توازناً إيجابياً بوجه الهيمنة ومشاريعها الأصلية والفرعية، تحتاج اليوم لنظرية تقود قواها تحت سقف مشروع حضاري استراتيجي واحد، ولأن فاعلية ما ينتجه المؤتمر على الصعيد النظري تخصّ مكوّناته والبيئة الجغرافية والتاريخية التي يتحدث بلسانها ويصل صوته إليها، بينما سيبقى فعله الإعلامي ضئيلاً في القدرة على الوصول إلى أسماع جمهور واسع في الغرب في ظل منظومة الحصار والعقوبات، التي ترجمت بمنع عدد من المشاركين الأميركيين من القدوم إلى المؤتمر.
– الحاجة النظريّة ماسّة وتأسيسية، وعسى يخرج المؤتمر بتوصية تجمع نخبة من المفكرين المشاركين لتتنكّب مهمة صياغة مسودات لخطوطها العريضة، توضع في التداول على أوسع نطاق، تخرج من دائرة المصطلحات والشعارات التي صاغها الغرب، ومنحها العالمية لتشكل أرضية حكمية لأيّ نقاش فكري سياسي على ملعب قام هو بصناعته، كحال شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب. والأسئلة النظرية هنا تطال ماهية العالم الجديد الذي يجمع روسيا وإيران والصين وقوى المقاومة، بعيداً عن الإطار القانوني الذي يُسمّى بالعالم المتعدّد الأقطاب، والذي لا يكفي لتفسير التاريخ وترسيم معادلات الجغرافيا.
– واحدة من الحقائق النظرية التي يحتاجها معسكر المواجهة مع المشروع الأميركي هي رد الاعتبار لمفهوم تاريخ الجغرافيا الحضارية للبشرية، وهو تاريخ الحضارات الإمبراطوريّة الكبرى التي عبرت عن روح الإنسانية الكامنة، قبل أن تتدخل الثورات الصناعية وثورات التواصل للتلاعب بمفاهيم الأمة، والدولة، والحرب، والعملة، والاقتصاد، والحضارة. وكان كافياً دخول المشروع الغربي المتسلسل منذ الثورة الصناعيّة للسيطرة على التاريخ والجغرافيا، في اختناق وجودي، حتى تستعيد أرواح هذه الإمبراطوريات، الصينية والروسية والفارسية والإسلامية والرومانية والبيزنطية، حضورها وتستنهض قواها، وتسقط بوجهها المحاولة المصطنعة لاستعادة الإمبراطورية العثمانية حضورها لتعقيم التاريخ وتخريب الجغرافيا، ليبدو الصراع بأحد وجوهه معركة بين استنهاض القوى الكامنة في التاريخ بوجه محاولات الهيمنة على التاريخ وإعلان نهايته، ومقابلها محاولة استنهاض الهويات الكامنة في الجغرافيا من أعراق وأتنيات لتفتيت الهويات الجامعة والمهيمنة بقوة، كما هو صراع بين جغرافيا الأصول الثابتة والجغرافيا الافتراضية، وبين السكان الأصليين والمستوطنين، وبين جوهر الديانات ومحاولات تصنيعها الجديدة وتغليفها الصناعي، لينتصب عمود الخيمة الإنسانية الجديدة بين عواصم كدمشق وطهران وموسكو وبكين، ولا مانع من روما وأثينا، مع الأخذ بفارق لا بدّ أن تتركه وقفات الفلاسفة الذين طوتهم أزمان الإمبراطوريات مضرّجين بتمسكهم بحرية العقل، وحق النقد، واعتبار الفرد كائناً مستقلاً عن الجماعة ومكوناً رئيسياً فيها، والدعوة للتعامل مع الديانة كشأن فردي أولاً، والبيئة الأخلاقية للدين كشأن اجتماعي وحضاري.