في ثقافة المقاومة… وقضية العملاء: ناصر قنديل
هذا الشهر من العام 1982 كان حافلاً بالشواهد على التحضيرات التي خاض غمارها تباعاً آلاف الرجال والنساء والشباب والصبايا من اللبنانيين وأحزابهم، لإطلاق أعظم حركة تاريخيّة وطنية في حياة لبنان، هي حركة المقاومة، التي يفتخر القوميون بأنهم كانوا في طليعتها منذ عملية الويمبي، وأنهم كانوا فيها نساكاً لا يبحثون عن توظيف دماء شهدائهم وتضحيات وعذابات أسراهم، أسوة بكل من كان صادقاً ومخلصاً لفكرة المقاومة، ولولا هذا الجمع المضحّي للمقاومين الذي كتب تاريخ لبنان الحديث، ما كان قيام لدولة، ولا للأمن فيها ولا للاقتصاد.
الأكيد عبر تاريخ هذه المقاومة أنها وهي تحتفل بالتحرير لم تربط هوية السلطة الناشئة ما بعد التحرير، بطبيعة مواقف مكوّناتها غداة انطلاق المقاومة أو أثناء مسيرتها، وتموضعهم على خطوط الاشتباك مع مشروع الاحتلال أو حيادهم في هذا الاشتباك، أو تلاعب بعضهم بين ضفتي الاحتلال وقوى المقاومة، بل وحتى مشاركة بعضهم علناً في الخريطة السياسية المرسومة لمشروع الاحتلال ورهانه عليه، فمواقف قوى المقاومة وثقافتها، كانت مؤسسة على التضحية بأي مكاسب سلطوية افتراضية، سعياً لضمان أوسع مساحة للوحدة الوطنية والسلم الأهلي، لتكون دولة لكل اللبنانيين، تطوي زمن الاحتلال ومراراته، وتفتح صفحة جديدة في حياة لبنان واللبنانيين.
رغم هذا التنسّك والسعي للوصل والجمع، بقيت مشاريع القسمة والضرب والطرح، وكانت قضية العملاء واحدة من الملفات التي تعبر في طياتها عن طبيعة المواقف الفعلية للقوى السياسية والطائفية وقادتها، والمقاومة التي كانت قادرة على جعل الملف من اختصاصها في إنهاء هذا الملف بعد التحرير مباشرة، تصرّفت بمسؤولية وطنية ارتضت أن يكون في عهدة الدولة، لكن ما جرى منذ ذلك الوقت وما يجري حتى اليوم يؤكد أن التعامل الرسمي والحكومي والأمني والقضائي مع هذا الملف يحتاج اليوم في ضوء تداعيات قضية العميل عامر إلياس الفاخوري، إلى إعادة نظر ومناقشة صريحة لا مجاملات فيها. فمصطلح المبعَدين الذي تسلل إلى السياسة يحمل ضمناً معادلة براءة للعملاء، والتشريعات القانونية التي يعتمدها القضاء لم تشهد أي معالجة خصوصية تأخذ بالاعتبار ما شهده البلد من قضايا وتفاصيل تحتاج إلى تضمين تبعاتها وتداعياتها في خصوصيات الأحكام، واللجوء للبرقية 303 يُعَد بذاته، تقصيراً قانونياً وقصوراً تشريعياً، ومثله ثقافة المؤسسات الأمنية والعسكرية تجاه هذا الملف تحتاج إلى تقييم وتقدير موقف جديد.
الأكيد الذي يجب أن يتنبّه له المسؤولون هو أن قضية العميل المتسلل من ثقوب السياسة والقضاء والأمن، فتحت جروحاً لن تندمل بلا إعادة قراءة للكيفية التي تم اعتمادها منذ العام 2000، ورسم سياسة تترجم بتشريعات وإجراءات وثقافة فوق السياسة، تصل حدّ العقيدة، عنوانها، لا مكان لعملاء الاحتلال إلا في السجون، ولا عقوبة للقتلة منهم إلا الموت، ولا مكان لنظريات العفو والتبادل والمقايضة في هذه القضية فهي قضية أمن وطني وقضية وفاء لعذابات ودماء الآلاف، غير قابلة للصرف في السياسة، ولا يملك أحد التفويض للتصرف بخواتيمها بالنيابة عن الذين لا زالت أوجاعهم وجراحاتهم حيّة.