مع كتاب عطب الذات لبرهان غليون-منير شفيق
صدر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر كتاب المفكر السوري والأكاديمي، وأول رئيس للمجلس الوطني السوري، برهان غليون، بعنوان “عطب الذات.. وقائع ثورة لم تكتمل.. سورية 2011 – 2012” في 528 صفحة
.
السبب الأول والرئيس الذي يعيد إليه برهان غليون فشل “الانتفاضة” أو الثورة السورية هو عدم توفر “قيادة فعلية”. ويوضح:
“ولا أقصد بالقيادة هنا شخصية قيادية، وإنما نخبة سياسية متفاهمة ومتكاملة ومتعاونة لتحقيق أهداف الشعب أولاً. وتوحيد صفوف المعارضة وصفوفه معاً، ومدركة للمسؤولية التاريخية التي تقع عليها“.
وقد كرس معظم كتابه نقداً مقزعاً للقيادات والتجمعات والأفراد الذين تصدوا للقيادة، وما اتسموا به من صفات دونية، أو سلبية لم تسمح لهم أن يتوحدوا، ويحسنوا إدارة الصراع.
ومن يجمع تلك الصفات التي عددها الدكتور برهان غليون؛ وقد اتسم بها أولئك الذين كانوا سيتولون قيادة سورية في حالة الانتصار، ويحاول تخيل المآل الذي كانت سورية ستؤول إليه في عهدهم، لزاد قناعة بعبثية ما حدث لو كان هذا مآله فعلا، وبعبثية ما حدث عندما يتابع مجموع التفاصيل التي يذكرها الدكتور برهان غليون، وهو موجود في قلب تلك القيادات، ويعمل معها لحظة بلحظة، ولقاء بعد لقاء، وخطوة إثر أخرى.
ولعله أصاب أول ما أصاب عندما أسمى كتابة “عطب الذات”- “وقائع ثورة لم تكتمل”. فالعطب فعلاً تلمسه، وعلى لسانه، فيمن تولوا أمر “ثورة لم تكتمل” ولا أدري هنا من أين جاء بتعبير “ثورة لم تكتمل” لأن وصف “عدم الاكتمال” يكون لثورة انتصرت ثم أُجهضت بثورة مضادة. أما الثورة التي تفشل أو تهزم فلا توصف إلا بالفشل.
ويشير الدكتور برهان غليون في الصفحة رقم 488 إلى ما نشب في سورية من صراعات وتدخلات وتطورات وحروب. فيقول:
” ما كان لدى المنتفضين والمعارضين السوريين أي إمكانية لتوقع تقاطع هذه الحروب على أرضهم، وتقاطعها مع حروب النظام، للحفاظ على بقائه قبل أن ينخرطوا في الثورة، ولم يكن في استطاعتهم وقفها بعد اندلاعها، أو الحيلولة دون استمرارها، بعد ذلك. هذه ديناميات تاريخية وجيواستراتيجية لا يمكن لعباقرة التحليل السياسي والاستراتيجي توقعها. ومن باب أوْلى لمعارضة محلية مقطوعة كلياً عن مناخات السياسات الدولية. وأكثر من ذلك لجمهور شعبي رمى بنفسه في معركة خاضها من قبله، وفي محيطه، أكثر من شعب من دون أن تثير كوارث استثنائية“.
ويستدرك:
“لكن آثارها ومفاعيلها كانت بالتأكيد ستكون مختلفة لو توافر للانتفاضة والمعارضة قيادة فعلية“.
بداية، لا بد من الوقوف أمام “معركة خيضت من قبل، وفي محيط، أكثر من شعب من دون أن تثير كوارث استثنائية”. ماذا يعني هذا؟
يعني أن الذين – وهو منهم بالتأكيد- ظنوا أن سورية مثل مصر وتونس عندما أطلقتا ثورتيهما ونجحتا لم تثيرا كوارث استثنائية. أفلا يدل هذا على تبسيطين مُخلين، وقياس في غير مكانه، ومن ثم الخطأ فيهما (التبسيطين والقياس) يؤدي إلى كوارث استثنائية؛ إلى مغامرة بالدم وبالخراب.
وهذا الخطأ لا يجوز أن يُنسَب إلى الشعب السوري، وإنما إلى النخب التي رددت ذلك في حينه. واعتبرت أن ما ستفعله هو ما فعله جيرانها في مصر وتونس. “وهذا من حقها” كأن للثورة حقاً ولا حق، وليس توفر شروط موضوعية وذاتية مناسبة للقيام بها وبشكل يرتبط بالسياسة وموازين القوى.
أما النقطة الأولى المتعلقة بحدوث ما لم يكن متوقعاً من تدخلات أو مواقف دول، ومن ثم لا ملامة هنا على قيادات يُعتبر خطأها الوحيد أنها اختلفت فيما بينها، ولم تتوحد، علماً أن أساس كل خطأ مسلكي يكمن في خطأ الخط السياسي، وفي الخطأ في تقدير الموقف. فإن أول ما يجب أن يقال في هذا الصدد هنا ينطبق عليه قول الشاعر “إذا كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ.. وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ”. وكيف إذا كان الأمر الذي لم تَدره يمسّ الدم والخراب والكارثة!
ثم لنفترض أن “عباقرة التحليل السياسي” ما كانوا سيتوقعون مثلاً التدخل العسكري الروسي أو الدعم الإيراني من جهة، أو التردد الدولي في دعم المعارضة من جهة أخرى. ولكن هل يجب أن تبقى هذه الاستحالة سنوات وسنوات بعد وقوع ما لم يكن متوقعاً؟ وهل يجب أن يَستمر على حاله ما كان قبل التوقع كأنه مفاجئ لم يحدث، أم يجب أن يفكر بتقليل الخسائر أو بانسحاب مشرّف؟
وبالمناسبة إنه لعذرٌ أقبحُ من ذنب استخدام “حجة عدم إمكان توقع ما حدث” فإنه لمن البدهي بالنسبة إلى قائد المعركة في الحرب وفي السياسة، أن يُفاجَأ بما لم يتوقع. ولكن الفارق بين موقفين: موقف يبتلع الطعم الآتي من غير المتوقع ويفشل. والثاني موقف يستوعبه ويتخطاه ويرد عليه إما بنصر وإما بتجنب الفشل والكارثة.
ولهذا لا يجوز أن يبرر الموقف الأول فشله في عدم توقع ما حدث، أو في عدم إمكان التوقع. ويمضي في ارتكاب الأخطاء حتى النهاية بعد وقوع الأمر.
أما البُعد الأهم الذي يسقطه الدكتور برهان غليون في تقييمه للتجربة، وهو أول رئيس للمجلس الوطني للمعارضة، فكان البُعد السياسي في قراءة ما حدث في العام 2011. وهو ما يوجِب التفريق بين بلد وآخر، وحالة وأخرى. ومن ثم الخطأ في وضع الجميع في سلة واحدة.
وقد تسبب تجاهل البُعد السياسي بوقوع كثيرين في خطأ كبير؛ وذلك حين ساووا بين ما حدث في تونس ومصر وليبيا واليمن من جهة، وسورية من جهة أخرى، محتجاً بأن “عباقرة التحليل” ما كانوا ليتوقعوا ما حدث.
وللتوضيح نقول أن مصر وتونس واليمن كانوا في جبهة “الاعتدال العربي”. وكانت قياداتها التي أُطيحَ بها متحالفة مع السعودية. وكانت قيادتا مصر وتونس على علاقات وثيقة بأمريكا والكيان الصهيوني. أما ليبيا واليمن فقد بدلتا سياساتهما السابقة بعد سقوط بغداد 2003.
فالرئيس الليبي معمر القذافي سلّم سلاحه المحظور لأمريكا، وتخلى عن معارضة الغرب. وكان مِنْ حوله مَنْ راح يمد خطوطاً مع الكيان الصهيوني. أما الرئيس اليمني فتحالف مع السعودية بقوة بعد 2003، وامتنع عن دعم عقد قمة عربية لنصرة قطاع غزة في حرب 2009/2008.
أما سورية فكانت قاعدة حقيقية للمقاومتين في لبنان وفلسطين، ودعمت المقاومة في العراق ضد الاحتلال الأمريكي، ورفضت شروط كولن باول. وكانت علاقاتها العربية مع الجزائر وقطر، والإقليمية مع تركيا وإيران، والدولية مع روسيا والصين (وفرنسا إلى حد ما). فضلاً عن علاقات حزب البعث بالمعارضات العربية. فهذا ما ميّز سورية من جهة البعد السياسي عن الحالات الأخرى. ومن ثم ميزها من ناحية بعض التحالفات التي لم يتوقعها “عباقرة التحليل السياسي” خصوصاً مع روسيا والصين وإيران وحزب الله.
وهذا دون الإشارة إلى بُعد داخلي يفرق بين حالة سورية والحالات الأخرى، وهو بُعد قيادة شابة، وقيادة جيش متماسكة معها، فيما في مصر وتونس وليبيا واليمن، قيادات دخلت في الشيخوخة والبحث عن التوريث وبعضها في تناقض مع الجيش، خصوصاً مصر، وإلى حد ما تونس.
وأخيراً حين يقرأ برهان غليون أن الإشكال الأول والأهم في المعارضة السورية هو عدم توفير “قيادة فعالة موحدة” إلى جانب أعطابها الذاتية الأخرى (الكثيرة كما يعددها)، لم يتنبه بأن ثورتي مصر وتونس نجحتا بلا توفر مثل تلك القيادة الميدانية أصلاً.
والأخطر أنه لم يتنبه إلى البعد السياسي منذ البداية من ناحية علاقته بموازين القوى الدولية والإقليمية والداخلية، خصوصاً، خروج أمريكا مهزومة ومعها محور الاعتدال العربي، مع نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، فيما كانت القوى الدولية والإقليمية والمقاومات المقابلة في حالة صعود وتقدم وإنجازات.