مخاض مصيري د.بثينة شعبان
بعد الاعتداءات المتكررة التي يشنّها الكيان الغاصب على الجمهورية العربية السورية وجمهورية العراق ولبنان وبعد أن أثبت الحشد الشعبي العراقي أن الطائرات المسيرة الإسرائيلية هي التي شنت عدواناً عليه، ينبري وزير خارجية الولايات المتحدة بومبيو ليهدّد هذه الدول الثلاث أن تستعد لتحمل المسؤولية في حال استخدمت أراضيها كمنصات لضرب “إسرائيل”، والسؤال الموجّه لبومبيو هو ما هو رأيه في كيان لا هوية له سوى شنّ العدوان على الدول الأخرى وممارسة قضم الأراضي الفلسطينية وتهجير السكان والاستيلاء على مقدساتهم وأرضهم ومياههم وتاريخهم وتقطيع أوصال أرضهم ومدنهم وقراهم من خلال بناء جدران عنصرية تعتبر أكبر عدوان على حقّ الإنسان في العيش الحرّ الكريم على أرضه. ومع أننا نعلم الجواب على هذا السؤال لأن الكيان الإسرائيلي الغاصب ما كان له أن يتمرّس في العدوان لولا الدعم المطلق للولايات المتحدة له وإلى حدّ ما لولا الدعم الغربي اللامحدود له نتيجة نفوذ الحكومات العميقة على سياسات هذه البلدان. ومن ثمّ يصدر بيان للبيت الأبيض ليقول: الولايات المتحدة تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن النفس في الهجوم الإسرائيلي على العراق وسورية ولبنان ومن ثمّ يحاولون ابتزاز المقاومة من خلال إغرائها أن تسكت عن العدوان مقابل بعض الرضا لبعض الوقت وعدم اتخاذ إجراءات عقابية ظالمة بحقّها. وحق الدفاع عن النفس اليوم أصبح عبارة يُساءُ استخدامها بحيث تخجل الكلمات والأحرف من مستخدميها. كيان يعتدي على دول ذات سيادة وقوة عظمى في العالم تسيطر الدوائر الصهيونية على إرادتها تعتبر هذا من حق “الدفاع عن النفس” وتهّدد الدول المعتدى عليها أن تتحمل تبعات أعمالها إن هي ردّت على العدوان. والأنموذج الثاني لهذي الحال هو ما تصرّح به تركيا أنه من حقنا “الدفاع عن النفس” على الأرض السورية ومن حقها أن “تدافع عن نفسها” ضدّ الجيش السوري الذي يعمل لتحرير أرضه ودياره.
والمتابع اليوم للتصريحات الإعلامية لكبار المسؤولين في الولايات المتحدة وفي تركيا على حدّ سواء يجد أن التناقض هو سيّد الموقف. تناقض هذه التصريحات مع بعضها أولاً ومع المنطق ثانياً ومع أي قانون يحكم الشرعة الدولية ثالثاً ومع سيادة واستقلال الدول وحقها في الدفاع عن أرضها ومقدساتها ضد أي عدوان تتعرض له. “الدفاع عن النفس على أرض الآخرين” هو بالذات تعميم لشريعة الغاب وإقرار أن بعض الدول أو الكيانات يحقّ لها ما لا يحق لغيرها وأن الأسلم للمعتدى عليه هو أن يبتلع الإهانة والضرر كي لا تلحق به هذه القوى مزيداً من العقوبات. والعقوبات اليوم أسهل على هذه القوى من إلقاء التحية، فمع كلّ مطلع شمس توقع الإدارة الأمريكية عقوبات على كلّ من لا يمتثل لإرادتها وإرادة ربيبتها “إسرائيل” والذريعة والتهمة جاهزة وهي أن من تقع عليه العقوبات ضالع في الإرهاب أو في تهديد الأمن والسلم الإقليمي والدولي. وقد جعلوا من ممارسة الضغوط الاقتصادية على الشعوب أسلوباً رسمياً للحرب على هذه الشعوب التي تقاتل الإرهاب وتنتصر عليه في الميدان وعلى كلّ قوى الشر فيلجؤون اليوم إلى محاولة تشديد الخناق الاقتصادي أملاً في إثارة الشعوب على حكامها وخلق البلبلة وتفتيت المجتمعات من الداخل، وبهذا فإن الحروب التواقة إلى الحرية والمضحّية في سبيلها تخوض حرب تحرير عسكرية واقتصادية ومجتمعية وهذه هي الحروب التي فرضت على أبناء هذا الجيل لكي يستمرّ الاستعمار في ممارسة طغيانه وقهره للشعوب الحرّة الأبية. معارك مماثلة تخوضها الصين وروسيا وكوريا الشمالية وحتى تيارات سياسية في أوروبا من أجل ترسيخ مبدأ السيادة واستقلالية القرار، فقد سئمت هذه الشعوب جميعها كلّ ممارسات الهيمنة والعدوان والظلم وقرّرت أنها لن تقف بعد اليوم ضحية للخوف مما سيحدث بل ستبادر لرفض هذا الواقع وخلق واقع جديد على أسس السيادة الندّية والكرامة الوطنية للجميع. ولكن وحتى وإن كانت محاولات هذه القوى الصاعدة لم تحسم الموقف إلى حدّ الآن إلا أنها لا شك تراكم خبرة وتجربة وقوة وثقة بأن طريق المقاومة مهما كلّف فهو أقل ثمناً من طريق الاستسلام. أولاً كسرت هذه القوى جميعها في الشرق والغرب حاجز الخوف مستندة إلى قناعة ترسخت أن قوى الهيمنة الاستعمارية ماضية في غيّها ولن تقتنع بأقلّ من سحق الآخرين وتحويلهم إلى أدوات خانعة وتابعة لها. فها نحن نشهد كلّ الإجراءات التي تتخذها الصين وروسيا ضد أساليب الهيمنة الغربية على العالم وعلّ الفيتو المزدوج الذي اتخذته هاتان القوتان في مجلس الأمن في 4 تشرين الأول 2011 لصالح سورية كان الشرارة الأولى المعبّرة عن الشعور أنه قد طفح الكيل وأنه لا يمكن السكوت عن محاولات فرض الهيمنة بالقوة على بلد عضو في الأمم المتحدة مستقلّ وذي سيادة. كما أن صعود اليمين في الانتخابات الأخيرة للاتحاد الأوروبي إنما هو التعبير الأوضح إلى حّد اليوم بأن الشعوب الأوروبية في بلدان عديدة يتوقون أيضاً إلى استقلالية القرار الذي يعبّر عنهم بعيداً عن التبعية العمياء للولايات المتحدة والتي درج عليها ومارسها حكام أوروبيون طيلة العقود الماضية. المخاض اليوم في العالم إذاً هو مخاض من أجل استقلالية القرار وسيادة حقيقية للدول على أرضها، وللشعوب على مقدراتها ومجتمعاتها وثرواتها وتوجهاتها الآنية والمستقبلية. هذا المخاض يحتاج إلى طريقة مختلفة من التفكير الاستراتيجي كي يصبح واقعاً تعيشه أجيال المستقبل وتحصد ثماره. لا يمكن خوض هذا المخاض بالأدوات التقليدية التي لم تثبت جدواها ولابدّ من اجتراح أدوات جديدة تتناسب وحجم وأبعاد المعركة التي نخوضها جميعاً على اختلاف أوجهها وتوجهاتها. إذا كانت إحدى أدوات السيطرة والهيمنة للاستعمار وقوى الاحتلال ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى حدّ اليوم قد ارتكزت بشكل أساسي على شقّ القوى المناهضة لها والتفريق بين مقدراتها والاستفراد بكل واحدة منها كي يسهل كسرها وهزيمتها فإن منطق الأمور يقتضي أن يكون التنسيق بين الدول المتضرّرة من هذه الهيمنة هو الأسلوب الأجدى والأنفع والذي يمكن أن يفرز عناصر القوة ويراكمها. وفي هذا الإطار قد يكون العالم اليوم يمرّ في مرحلة ما بعد القوميات وصولاً إلى التنسيق الدولي بين القوى ذات المصالح المشتركة. فإذا كانت الركيزة الأساسية للكيان الإسرائيلي الغاصب منذ نشأته هي عدم السماح بتلاقي دولتين عربيتين لقاءً حقيقياً فإن الردّ البديهي يكون من خلال تلاقي قوى عربية صادقة وتنسيق جهودها لخوض غمار معركة مصيرية وحاسمة، وإذا كان أسلوب الكيان يعتمد على تشويه الوقائع في فلسطين المحتلة في أنظار العالم فإن الردّ الأنسب يكون في نقل القضية الفلسطينية إلى ضمائر البشر في أرجاء المعمورة لأنها قضية الإنسان في كل مكان، وإذا كانت روسيا والصين بحكم طبيعتهما تتصديان لآخر مظاهر الاستعمار في مجلس الأمن والأمم المتحدة فإن من واجب الدول الأخرى المتضرّرة أيضاً من إرث استعماري بغيض، من واجبها الالتفاف حول روسيا والصين وشدّ عرى التآزر معهما في تشكيل عالم ينعم الجميع فيه بحقوق متساوية وبكرامة وسيادة وطنية. المخاض العالمي الجديد يحتاج إلى استراتيجيات وطنية نافذة وإقليمية مدروسة ودولية صادقة ومخلصة تضع مصلحة الإنسان في كلّ مكان في أعلى سلم أولوياتها. بهذا الأسلوب يمكن لنا أن نأمل أننا سوف نورّث أبناءنا وأحفادنا عالماً أفضل بكثير من الذي ورثناه عن آبائنا. بهذا فقط نستطيع أن نكون نحن من يحدّد نتائج هذا المخاض العالمي المصيري العسير.