تحصيل الحقوق المسيحية: مسار الانفجار الطائفي: هيام القصيفي
عودة الخطاب الطائفي وارتفاع لهجة المطالبة بالحقوق المسيحية، لا يشكّلان مساراً فجائياً. لأنهما بدآ بعد عام 2005، على خلفية الاحتقان في مرحلة الوجود السوري. لكن على طريق «استعادة الحقوق»، تكمن الأخطاء التي تخلّف وراءها سلبيات مؤثرة
الانفجار الطائفي الفجائي، ليس فجائياً تماماً. لكنه أصبح تراكمياً، إلى حدّ تشعبه في كل المفاصل السياسية والحياتية، وصولاً إلى الفنية، وعادت اللغة المستخدمة إلى سابق عهد الحرب بكل وجوهها الطائفية. يمكن منتقدي هذا المسار أن يتعاملوا معه على أنه فورة طائفية بحت لا أسس عملية لها، ويمكن وصفها أيضاً بالشعبوية وبأنها من باب المزايدات الانتخابية. لكن حين يحلّ هذا المسار عنصراً أساسياً في المشهد السياسي، يفترض التوقف عنده قليلاً ومراجعة خلفية هذا التوتر المتنقل من ملف إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى. هو بالتأكيد ليس توتراً طائفياً ابن ساعته، بل تتويج لسنوات طويلة، على خلفية ما حصل في مرحلة تنفيذ الطائف والوجود السوري. من هنا، لا تشذّ قراءة رفض المادة 80 من الموازنة اليوم، عن سياق سياسي عام، ولا يمكن مقاربتها إلا من ضمن الإطار الذي تحاول قوى مسيحية تكريسه أمراً واقعاً، بعدما بدأت تعبّر عنه منذ خروج الجيش السوري من لبنان. والتهدئة الظرفية التي طبعت عام 2005، لم تكن مكتملة العناصر والأهداف، لأن أسبابها الحقيقية، كانت العبور من مرحلة إلى أخرى بأقل الأضرار الممكنة.
زمن الوجود السوري، وما تعرضت له القوى السياسية المسيحية في أكثريتها الممثلة للناخبين المسيحيين، تفاقمت عوامل الضغط سنة بعد أخرى، لتنفجر في مراحل عدة، متتالية، منها ما عبّرت عنه الكنيسة المارونية، ومنها ما عبّرت عنه القيادات السياسية، سواء الحزبية أو المستقلة التي تحلقت حول بكركي. في تلك المرحلة بدأ تكرار كلمات وعبارات «هواجس المسيحيين»، و«حقوق المسيحيين» و«الغبن المسيحي» وما إلى ذلك من مفردات تعكس مطالب هذه القوى من إدارة الحكم التي كانت موالية للنظام السوري. كانت حقبة الرئيس رفيق الحريري، والترويكا، مظلة للحقوق المهدورة التي عُبِّر عنها بقوانين الانتخاب، وبابتعاد المسيحيين عن الإدارة بعد مقاطعة انتخابات عام 1992. شكّلت قوانين الانتخاب، مع سوء تطبيق الطائف، هاجساً مستمراً للمسيحيين، لأنه جرى التعاطي معهم من خلالها كأداة تهميش فعالة. من هنا كانت أولى مطالباتهم بقانون 1960 الذين اعتبروه منقذاً حقيقياً لهم، ليكتشفوا لاحقاً ثغراته، ويطالبوا بقانون اللقاء الأرثوذكسي. وتحوّل هذا المشروع اللبنة الأساسية في مشروع سياسي تحاول كل قوة مسيحية التعبير عنه على طريقتها تحت عنوان إعادة المسيحيين إلى كنف الدولة، خصوصاً أنه كشف حقيقة المشاعر الداخلية لفئة تريد استعادة وجودها وحقوقها بعد المسّ بها لسنوات.
في موازاة ذلك، برزت نظرية الرئيس القوي، التي أطلقها التيار الوطني الحر، ليكرّس أول مطلب مسيحي، وتبنتها الكنيسة المارونية في لقاء القيادات المارونية الأربع. كان هدف التيار إيصال رئيسه العماد ميشال عون إلى بعبدا، وتلاقت معه القوى السياسية الأخرى في تبني هذا المطلب الذي يساهم في تزكية الزعماء الموارنة وحدهم دون غيرهم. ومع هذه النظرية التي سبقتها مراراً المناداة بتعديل صلاحيات رئيس الجمهورية، من ضمن الإحاطة الشاملة بـ«الحقوق المسيحية»، وبعد انتخاب عون تحديداً، بدأ هذا الاتجاه يتكرس أكثر فأكثر.
صحيح أنّ التيار الوطني الحر يعبّر عنه بوضوح يقارب الفجاجة، في نظر معارضيه، لكن هذا لا يعني أن نواة هذا الخطاب ليست موجودة عند الأفرقاء الآخرين، حتى لدى مستقلين عبّروا عنه بحدة أقل في مرحلة 2005. قد يختلف البعض على اللهجة أو التعابير المستخدمة، لكن جوهر المطالبة يبقى هو نفسه. وقد تختلف مقاربة «استعادة الحقوق» من طرف إلى آخر، إذ يريد بعض معارضي التيار استعادتها من الثنائية الشيعية، فيما يبغي بعض مؤيديه استعادتها من السُّنة الذين كانوا الأكثر حضوراً في الحكم بعد الطائف. لكن مقاربة اتفاق معراب لجهة تقاسم الحصص المسيحية، تعني في مكان ما القراءة في كتاب واحد. لذا، لا يمكن عزل كل هذا الانفجار الطائفي، عن ماضٍ قريب، تريد القوى المسيحية، مستفيدة من وجودها في السلطة، أن تعوض عنه.
لا شك في أن هذا الخطاب، الذي يعتبره مناهضو التيار أنه خطاب قواتي بحت من زمن الحرب، خطاب جذاب، حتى لتلك الفئة الرمادية التي لا تنتمي تقليداً إلى أيّ فئة سياسية. لكن ارتفاع حدة هذا الخطاب لم يعد يجذب سوى التوتر السياسي الذي يرتدّ أيضاً على أصحابه. خطورة هذا المسار تكمن في أنه يمرّ بمراحل صعود وهبوط. فصحيح أنّ بدايته معروفة، لكن نهايته ضبابية، أولاً لأنه لا يستند إلى قوة ذاتية، بل إلى قاعدة حلفاء أحياناً «يطنّشون» على المبالغة فيه، لأسباب موضوعية تتعلق بإدارة الوضع الداخلي؛ وثانياً لأنه يعيش أيضاً فورة في الخطاب السياسي و«اللغوي» ومبالغة في نفخ الواقع المسيحي الحقيقي، وأخطاء ترتكب على طريق تثبيت الحقوق، وثالثاً لأن العودة إلى الإدارة وإلى الحكم والسلطة تحتاج إلى أدوات فاعلة، لا مجرد ملء مراكز شاغرة، وتحتاج أولاً وآخراً إلى ثقة المسيحيين بالإدارة وبالمؤسسات الأمنية التي لا تزال تشكو من «نوعية» المتقدمين إليها وقلة أعدادهم. وثمة واقعية أيضاً يفترض التوقف عندها، تتعلق بحجم هذا الوجود السياسي وبالاتجاه الذي تطالب به هذه القوى، وخاصة بالنسبة إلى بعض المراكز التي لا يمكن التيار مهما وصلت مبالغته أن يطالب بـ«استعادتها».
من هنا تصبح سلسلة المحطات التي جرت أخيراً من أحاديث رئيس التيار الوطني في بعض المناطق، وحادثة قبرشمون التي انطلقت مسيحية – درزية، رغم محاولة تصويرها عونية – اشتراكية، قبل أن تصبح درزية – درزية، وصولاً إلى المادة 80 من الموازنة وما يحصل من حملات إعلامية وسياسية، عبر استخدام عبارات طائفية محض، ليصبّ في خانة واحدة، وهذا أمر يحمل في طياته بذوراً خطرة، لأنه لا يمكن التعامل مع كل حدث على المستوى نفسه من التجييش الطائفي والسياسي، فتكاد أهمية قانون الانتخاب توازي البند 80 من الموازنة أو ملف النازحين السوريين أو العمالة الفلسطينية أو منع حفلة موسيقية.
يصح الكلام عن أخطاء على طريق «تثبيت حقوق المسيحيين» في إدارة لعبة الحكم وإعادتهم إلى مراكز السلطة، ولا سيما أن هذا العنوان يسحب في طريقه الكنيسة عن وعي أو غير وعي. ولكن يصحّ أيضاً الكلام على تعامل القوى الأخرى معه، لأنه رغم الحساسيات التي تبرز على خط التوتر السني الشيعي، إلا أن الطرفين سرعان ما يتماهيان، لحظة تكبر دائرة المطالب المسيحية فتصبح حينها «تعجيزية».
(الاخبار)