غرينبلات و”صفقة القرن”-منير شفيق
المقابلة التي جرت بين جودي وودورف وجيسون غرينبلات، ونشرت على المواقع في 17 تموز/ يوليو 2019، تعطي صورة دقيقة للعقلية التي يحملها غرينبلات، وتسرب بعض المعلومات عن مسيرة ما سمي بـ”صفقة القرن“.
تلخص المقابلة القناعات التي يحملها غرينبلات، وهو أحد ثلاثة كلفهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بوضع خطة لـ”صفقة القرن”، والسير في عملية بلورتها وإطلاقها وتحقيقها، فهو مرجع أساسي في كل ما يتعلق بالصفقة المزعومة. والصفقة يجب أن تحمل صفة مزعومة، ما لم تعلن رسمياً، فإعلانها ما زال في عالم الوعد، أو الوعود.
وقد أكد غرينبلات، في المقابلة المذكورة، أن المنهج الذي تقرر اتباعه يقضي بعدم الإعلان عن أي إنجاز يحققونه، أو أي بند من بنودها، وذلك لأن “الناس سيبدأون بنقد كل بند في الخطة” قبل إعلانها كاملة، الأمر الذي يعني أن “الخطة” ستبقى مجهولة حتى مرحلتها النهائية. وهذا ليس إخفاء لإنجاز لم يتحقق بعد، وإنما إخفاء الفشل والإخفاقات أيضاً. فقد أكد في المقابلة أنه لم يجد فلسطينياً واحداً يبدي موافقته، أو يقبل (من بين الذين التقاهم سرا) أن يُعلن لقاءه معه. وغرينبلات تفهم ذلك بسبب الخوف من أهلهم وبيئتهم.
ثم وصل إلى موضوعة تنسف، عملياً، مشروع “ورشة البحرين”، وهي أنه لا سلام اقتصادياً من دون حل سياسي مقبول من الطرفين، الأمر الذي يعني انهيار المقولة التي تبناها “ثلاثي الصفقة”، وهي القول بعدم أهمية الفلسطينيين، وأن الصفقة ستبدأ عربياً، أو هي عربية قبل أن تكون فلسطينية. ولكن موضوعته تلك أعادت “الصفقة” إلى الحل السياسي المقبول من الطرفين، كما قال. ويوضح ذلك أكثر عندما سئل عن موقفه من سياسة نتنياهو الخاصة بضم المستوطنات في الضفة الغربية. وقد أجاب بأنه يرفض استخدام عبارة مستوطنات لأنها عدائية ومضللة؛ إذ يريد استخدام “الأحياء والمدن المجاورة”. كما يرفض استخدام احتلال، فالضفة أو “يهودا والسامرة”، “أراضٍ متنازع عليها”. طبعاً هذا يخالف كل ما صدر رسمياً عن أمريكا في السابق، ولم يعلن “رسمياً” التخلي عنه حتى الآن. ولكن الأبلغ بالنسبة إلى “صفقة القرن” قوله إن المشكلة هنا تحتاج أن “تحل بالمفاوضة المباشرة بين الطرفين المعنيين”. فإذا كان الأمر كذلك، فأي حل تحمل خطة “صفقة القرن” ما دام الحل متوقفاً “على المفاوضة المباشرة بين الطرفين”؟
فغرينبلات هنا لم يعِد بأن ينفذ “صفقة القرن” من خلال ما حوته من بنود وتوجهات، وإنما من خلال المفاوضات المباشرة بين الطرفين.
وخلاصة كل ما سربه غرينبلات حول الخطة اقتصر على القول إنها خطة مشكلة من “60 صفحة”، وأن إعلانها الذي طال انتظاره أكثر من سنتين سيقرره دونالد ترامب. وهو لا يستطيع أن يحدد هل يحصل هذا قبل انتخابات الكنيست القادمة، أم سيتوقف على تشكيل الحكومة، أم لا يُعلن إلاّ حين يقرر ترامب ذلك، علماً أن مياهاً كثيرة ستكون قد مرت تحت النهر.
والطريف أن المنهج كما يقول غرينبلات كان، في الأصل، عدم التدخل في البحث السياسي المتعلق بالصفقة، مستبعداً أي حديث عن حل دولة واحدة، أو دولتين، ولا يريد أن يناقش محمود عباس حين يتحدث عن حدود 1967. وكان جوابه: لننتظر إلى حين نكشف الخطة السياسية. لاحِظوا، أصبحت الإشارة إلى “صفقة القرن” باعتبارها “الخطة السياسية“.
حقاً، ما هذه الخطة السياسية التي لا يريد أن يناقشها مع أحد قبل أن يعلنها؟
بكلمة، نحن أمام حالة تعرف ما لا تريد، ولكنها لم تحدد ما تريد، أو حصرت ما تريد بما يريده، أو سيريده نتنياهو، أو من سيأتي بعده. وهذا بدوره أصبح مرتبطاً بالمفاوضات المباشرة بين الطرفين (الرجوع إلى المربع الأول)!
فهو لا يريد حل الدولة الواحدة؛ لأنه لو أراد ذلك لأعلن الخطة، كما قال قبل سنتين، ولا يريد حل الدولتين؛ لأن قضية معقدة إلى هذا الحد “لا تحل بثلاث كلمات”. ولا يريد الحديث عن حدود 1967، ويجب عدم استخدام كلمة المستوطنات أو الاستيطان، أو كلمة احتلال. ويفضل بدلاً منها بالتتالي: “أحياء ومدنا مجاورة”.. و”أراضي متنازعا عليها“.
وهذا كله يعني أن لا “صفقة القرن” تحت التنفيذ، أو معدة للتنفيذ، وإنما هناك خطة سرية تقررها نتائج المفاوضات المباشرة التي لم تبدأ بعد، ولم يُعدّ لها حتى الآن. بل ما مورس على الأرض في هذا الشأن انتهى إلى القطيعة مع سلطة رام الله و”م.ت.ف” بقيادة محمود عباس.
ومن هنا، فإن المواجهة يجب أن تكون مع دونالد ترامب وسياساته وممارساته، وليس مع “عنوان” اسمه “صفقة القرن”، أو “خطة سرية”. ولهذا تحشد الحشود والقوى المضادة لإسقاط سياسات ترامب بخصوص القدس والجولان والضفة الغربية ووكالة الغوث، كما لمواجهة سياسات نتنياهو الخاصة بالاستيطان والاحتلال والتهويد والانتهاكات بحق المسجد الأقصى.
ففيما يتعلق بهذا البُعد، فالطريق هو تحويل ما تحقق من وحدة وطنية فلسطينية ضد “صفقة القرن”؛ إلى وحدة وطنية فلسطينية لإطلاق انتفاضة شعبية شاملة، في الضفة الغربية وقطاع غزة، تلتقي مع مسيرات العودة الكبرى تحت هدف دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات من الضفة الغربية والقدس، بلا قيد أو شرط، تمهيداً لمواصلة الوحدة الفلسطينية لتحرير فلسطين كل فلسطين من النهر إلى البحر، ومن الناقورة إلى أم الرشراش.
وهنا يجب التنبه إلى أن كل سياسات ترامب ونتنياهو، بالنسبة إلى الوضع الفلسطيني، تسير جنباً إلى جنب، وفي الآن نفسه، مع ما يجري من حصار أمريكي لإيران بهدف تجريدها من صواريخها البالستية، ووقف دعمها للمقاومتين في لبنان وفلسطين، ومساهمتها في تحصين سورية بالصواريخ، الأمر الذي فتح حرب مواجهة بين إيران وأمريكا هي الأخطر الآن، والأشد تأثيراً في نتائجها على مستقبل القضية الفلسطينية. ولا سيما إذا ما وصل الصراع الراهن إلى الحرب أو ما يشبهها؛ لأن ما يطلبه ترامب من الحصار لا يمكن أن تلبيه إيران مبدئياً، وحفاظاً على أمنها القومي، بل فيه دمارها حين تتخلى عن دفاعها عن نفسها.
وهذا كله يمس، في نتائجه، معادلة موازين القوى فلسطينياً وعربياً وإسلامياً وعالمياً.. وإنها لمعركة مصير.