إلى سياسيي لبنان : نص وقّعه تمّوز إليكم في سلّةٍ من التين واللين بريشة نسر حرمون
في التقديم:
يغريني أن أطلّ على لبنان واضعاً نصّي في سلّةٍ من القصب أملأها بمياه “عين التين” وأتطلّع معكم عبر قشّها نحو بلدان الخليج و”يا مهاجرين ارجعوا”.
يغريني أيضاً أن أدسّ هذا النص في عبّ اللواء الصديق عبّاس إبراهيم السحيق، “السفير” المليّن للعبسات والمكابرات والعنتريات،
النص:
يغريني خروجكم من المواقد المتجدّدة إلى القطب المتجمّد الشمالي حيث أكتب لأسبابٍ عدّة، أولهما ألاّ يغشّكم شهر تمّوز/ يوليو الحار هذا العام وخلاله تقوى، كما العادة، الشهيّة اللبنانية الرسميّة والشعبية في إنتظار بقايا المصطافين والمهاجرين اللبنانيين الذين داسوا حرّ تمّوز وحاولوا الإرتماء فوق أذرعنا من الخليج ونوافذ الدنيا. تلك ظاهرة أجهضتوها مع أنّها تحمل عبر التاريخ، الكثير من الصدقية والأخوّة واللهفة وإنتظارات ثمار الصيف، لكنها تحمل الكثير من النقد والشوك وفوضى الأسعار وغياب الرقابة وتفشّي الجشع والسرقات الذي يسيء إلى صورة لبنان المحبوب، ويطفّش السائحين بهزّاتكم السياسية والأمنية على مقاييس سلّم “ريختر” الذي لا يقوى خرابه إلاّ في كلّ تمّوز.
أمّا السبب الثاني فهو أنّ تموّز هو من الأشهر الحامية والدامية في ذاكرة اللبنانيين والخليجيين والعالم، ليس الآن، بل بتذكّر بذور أنطون سعادة وروحه ونصوصه مروراً بالنكسة( إنظر إلى هذا المصطلح الحقير) العربيّة التي تأسّست ودمغت الصيف العربي الهزيل في حزيران/ يونيو 1967 وصولاً إلى حرب ال 2006 الإسرائيليّة على لبنان التي كشحت الكثير من هذا الهزال العربي ورفعت الأقنعة الكثيرة عن الحقائق الرطبة تحت الطاولات العربيّة.
تشظّى آذار الهدّار بين 8 و14 آذار وعبّأتم شهور لبنان وسنواته ومستقبله بعد إغتيال رفيق الحريري في ال2005 في مستنقعات ونيران طائفية ومذهبية وسياسية كبرى دمّرت إمتدّت إلى العديد من الدول العربيّة تحت تسمية جميلة هي “الربيع العربي” قاتل معاني الفصول والأزمنة في الوجدان العربيّ.
أطلّ تمّوزال 2019 ثالثاً، وجبلكم ينام خلف المفارق ينتظر السياحة في بلد اللاسباحة، فشبّت بكم نيران تمّوز بأحداثٍ ساخنة تتوسّع مفاعيلها وتداعياتها فتشغل الصيف المجروح ويسمع بها العالم وتتلبّد الغيوم السياسيّة فوق لبنان المأزوم بالأثقال الفاسدة المتعفّنة والجبال الإقتصادية والماليّة.
لست بصدد الشعر ولا النصح بالتفاهم والتلاقي وحلحلة عقد الأعصاب المشدودة وتبريد الأجواء لأنّ القطب الشمالي بعيد عنكم ، لكنني أطلّ لأعصر الذاكرة في ملف الحروب التي حضنتم لنصفّيها بالأرقام، ونبرز حجم الكوارث البشرية التي حصدت الآلاف من لبناننا، وهدّمت حضارة وخربت بلداً من بلدان المتوسط والعالم الراقية كلّف إعادة إعماره مليارات الدولارات وديون لا تنتهي وفساد على مدّ عينك والنظر، وخطاب منقسم ومتوتر غارق في المديونية العامة المتعثّرة ويهدّد بالمكابرة وتجديد الفراغات وكأنّ لبنان هاوية الشرق لا جبله المرتفع.
ورابعاً وإحتراماً وتقديراً، أترك للسان المقاومة الفصيح ، بالطبع، تذكيركم بجدول الخسائر والأرباح في حرب تموز 2006، والعودة إلى السطر، لكن إقرأوا جيّداً تلك الأرقام:
حصد مسلسل العنف في لبنان بالتراشق بالقذائف المدفعيّة والصاروخيّة، ثم التحوّل إلى القصف العشوائي والتصفيات الطائفية والاغتيالات 144.240 قتيلاً و184.051 جريحاً و17.415 مفقوداً و13.968 مخطوفاً و13.455 معاقاً بين 13 نيسان 1975 وأواخر 1991، وهي أرقام لم أدخل فيها عدد القتلى الذين سقطوا في المخيّمات الفلسطينية، ولا آثار الغارات الإسرائيلية على المخيمات الفلسطينية، ولا غارات الطيران الحربي الفرنسي على مواقع حركة “أمل الاسلامية”، و”الحرس الثوري الإيراني” في “بوادي” في البقاع وغيرها. وحصدت أعمال تفجير 3758 سيارة 5.887 قتيلاً و8.688 جريحاً. وتشير دراسة شاملة صدرت باللغة الفرنسيّة رصدت نتائج الحروب اللبنانية جاءت على الشكل التالي: 71.328 قتيلاً أي 2.7 بالمئة من اللبنانيين و97.144 جريحاً، أي أربعة بالمئة، و9.627 مقاماً أي بنسبة 0.36 بالمئة من اللبنانيين، و19.860 مخطوفاً أي بنسبة 0.75 بالمئة منهم.
يُضاف إلى هذه الأرقام 750 ألف مهجر ومليون مهاجر في الفترة عينها أو في نظرة ثانية 125.360 أسرة مهجرة توصلنا إلى 680.980 نسمة مقابل 617.860 عدد الأسر المقيمة في لبنان من مجموع السكان المقدر بـ3.061.000 نسمة. وتذهب الأرقام بأن اثنين من ثلاثة من اللبنانيين اقتلعوا لمرّة واحدة على الأقل من أماكنهم، بينما حصرت وزارة المهجرين العدد بـ355.604 مهجّرين.
ومهما اختلفت هذه الأرقام والاحصاءات وتغيّرت اليوم، فإنّها تشير في حدّها الأدنى إلى الثقل التدميري الذي تحمّله اللبنانيون بما يسقط الكلام في أي شكل من أشكال تناكف السلطات وتفاتلها وتقاسمها بين المذاهب والأحزاب ونزاعاتهم المستجدة، كما يسقط أي جهدٍ للبحث عن معاني الإنتصارات والانهيارات ونتائجها السخيفة.
قد لا يتضح معنى التذكير بكلام من هذا الوزن إلا إذا عرفنا أن 192 قرية وبلدة لبنانية قد دمّرت وهجر أهلوها بالإضافة الى بيروت الكبرى عاصمة التدمير والخراب حيث إنهارت فيها الطوائف كلها وخصوصاً الموارنة والشيعة والدروز. ويضاف هذا العدد ليصل إلى 374 قرية جنوبية قصفت من أصل 461 قرية مجموع قرى ومزارع الجنوب أي بنسبة اجمالية 81.12 بالمئة.
ليتكم تتّعظون!
للتذكير: إن آثار الحرب قد انعكست بشكل كامل على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والتعليمية والتعبيرية، وفجرت أزمات كبرى اجتماعية ونفسية لم يتخلّص منها المجتمع اللبناني بعد. انكفأت سلطات العائلة والمدرسة والدين والجامعة وتتنافس القيم وتبدو السلطات السياسية مستوردة في قبضة قوى خارجية لها ممثّلوها في السلطة المتناوبة والتي يمكن تحديدها وقد خاضت حروبها بمختلف التنوّعات والجنسيات والوسائل والاشكال والإحتقار للرعايا، وتبدو اليوم بعد محاولات مضنية في إعادة احياء السلطات وقيام الدولة، نبعاً متدفّقاً بالأزمات القياديّة وإستمراء الفراغ والإرتباك والتشظيات والمكابرات، وهي تخوض صراعات جديدة خطابيّة ودمويّة للتعبير عن بقايا وجودها وفتات حضورها حفاظاً على “المصير” الخاص بها أكثر مما هو خاص بالوطن يطجّ مثل كرةٍ في ملعب الدول الإقليمية والكبرى .