الاستعمار الأميركي في لبنان
غالب قنديل
ليس من المبالغة وصف سلسلة العقوبات ضد لبنان وقطاعه المصرفي بالاستعمار المالي الأميركي بينما الهدف المعلن للعقوبات هو استهداف حزب الله عقابا على دوره الرئيسي في قيادة مقاومة كان لها الفضل في طرد الاحتلال الصهيوني واقتلاعه وأثبتت جدارتها في الدفاع عن الوطن والشعب خلال حرب تموز ومنذ ذلك الحين تفرض قدراتها المتنامية معادلة رادعة تمنع العدو من تكرار مغامرته العسكرية تحسبا لرد المقاومة القاسي والمؤلم باعتراف كبار القادة العسكريين الصهاينة.
تستهدف العقوبات تشديد الضغط على الاقتصاد اللبناني وتحميل حزب الله مسؤولية النتائج والتداعيات إضافة إلى استنزاف جمهور المقاومة وحلفاءها داخل لبنان بتدابير قاسية يضعها المخططون في خانة ما يسمونه تجفيف الموارد بناء على توصيفهم للمقاومة بالإرهاب وهو ما درجت عليه واشنطن منذ العقود الأخيرة من القرن الماضي في التعامل مع جميع حركات التحرير والمقاومة في المنطقة والعالم بالاستفادة من محورية دورها المالي والمصرفي في الأسواق العالمية وتحكمها بنظام تحويلات السويفت الذي يمر في نيويورك حكما أيا كان مصدره على سطح الكرة الأرضية.
لمن يستهول التوصيف إن حقيقة هذه العملية وجوهرها هو الهيمنة الاستعمارية على البلد وكسر إرادة التحرر والاستقلال التي تمثلها المقاومة وجميع الشواهد الاقتصادية والمالية المرتبطة بأزمة الدين العام وتدخلات صندوق النقد والبنك الدولي تشير إلى حجم التحكم الأميركي الذي يرسم الأولويات الاقتصادية والمالية ويسعى من خلال مقررات سيدر وأحيانا عبر الشريك الثانوي الفرنسي إلى إدخال الشركات الأجنبية الغربية مباشرة في ملكية وإدارة المرافق العامة على حساب الأولويات الوطنية اللبنانية لتكريس لبنان كسوق خاضع للهيمنة الأميركية الغربية ونهبها.
لا تتوقف مظاهر سيطرة الاستعمار الأميركي في لبنان عند حدود العقوبات المالية بل إن لها اكثر من وجه آخر وخطير في الاقتصاد والسياسة يتمثل بتقطيع اوردة الارتباط الطبيعي بالمحيط القومي من خلال منع عودة المهجرين السوريين واعتراض واشنطن على أي تطوير للعلاقات اللبنانية السورية رغم التشابك التاريخي الذي بلغ في زمن الانتداب اعتماد العملة الواحدة والمصرف المركزي الواحد (بنك سورية ولبنان) وما سمي بالمصالح المشتركة بدءا بالوحدة الجمركية.
وفي حين تمثل سورية الرئة الطبيعية والممر التجاري الذي لاغنى عنه تراعي السلطات اللبنانية الحظر الأميركي على التقدم في طريق التعاون والتنسيق مع سورية وبالتمام فإن الضغوط الأميركية الشديدة تعترض تطوير العلاقات اللبنانية مع العراق الذي كان على الدوام الشريك التجاري الاهم للبنان منذ اواسط القرن العشرين وقد حالت استجابة السلطة اللبنانية للضغوط الأميركية دون أي انفتاح على إيران التي قدمت عروضا وهبات سخية لتلبية احتياجات لبنانية ملحة في مجالات الدفاع والكهرباء والمصافي النفطية والسكك الحديد والسدود والأنفاق حيث تتوافر مهارات وخبرات وتقنيات إيرانية مشهود لها عالميا.
كذلك تحت الضغط الأميركي سارت الحكومات اللبنانية بحذر في طرق التعامل مع الصين التي أقصيت تعسفا عن سلة مشاريع سيدر رغم انها الدولة العظمى ذات الاقتصاد العملاق والقدرات التقنية المتقدمة والإمكانات المالية الهائلة التي تصل حد حملها لمعظم الدين الأميركي العام الذي لا يمثل دين لبنان منه شيئا يذكر ورغم وجود مشاريع عمرانية صينية شاملة ضمن سلة الحزام والطريق التي يقع لبنان في مجالها الحيوي ويراعي المسؤولون احتجاجات السفيرة الأميركية الصادمة على زيارات الشركات الصينية وتحركات وفودها في بيروت وهو أيضا ما ينطبق على العلاقات اللبنانية الروسية التي اعتبر الأميركيون تطويرها مسا بأمنهم القومي وسط صمت لبناني ثقيل.
الأخطر من كل ما تقدم هو مس الوصاية الأميركية بالقدرات الدفاعية الوطنية من خلال ابتزاز السلطات اللبنانية بفرض حصرية اعتماد الجيش على الفتات الذي تقدمه واشنطن من الأسلحة الأميركية المنسقة وحظر حصوله على انظمة للدفاع الجوي تردع الاستباحة الصهيونية وهكذا فرض الأميركيون على لبنان رفض الهبات العسكرية التي عرضتها إيران وروسيا والصين.
إن العقوبات الجديدة التي طاولت ثلاثة قياديين من حزب الله مثلت تصعيدا في وتيرة الاستهداف الأميركي للكرامة الوطنية وللسيادة وللمؤسسات الدستورية وإذا كانت قيادة المقاومة مصممة على تحمل النتائج بمفردها والصمود في وجه هذا العدوان بقدراتها ووسائلها الذاتية وترك السلطة اللبنانية تحدد خيارها ووسائلها في رد الإهانة والتطاول بناء على قاعدة “لن نطلب شيئا من احد” وقد تحاشى امين عام حزب الله عامدا اقتراح أي رد على السلطة التي يشارك الحزب في مؤسستيها التشريعية والتنفيذية فإن ذلك لا يعفي احدا من اللبنانيين عموما ومن انصار النهج الوطني المقاوم ومعتنقي فكرة التحرر من الهيمنة الاستعمارية خصوصا من مسؤولية النضال لتحرير بلدهم من الاستعمار الأميركي بكل أشكاله وملاقاة ما تطوره المقاومة من قدرات الردع والحماية.