بقلم غالب قنديل

لبنان وثنائية التحرير والتغيير

غالب قنديل

الفكرة الشائعة لدى العديد من الوطنيين المخلصين والصادقين هي ان لبنان بعد التحرير دخل مرحلة النضال من اجل التغيير وهم اعتبروا ان قيام المقاومة بطرد الاحتلال الصهيوني واقتلاعه من التراب الوطني فتح عهدا جديدا من النضال السياسي والشعبي يجب ان يكون محوره التغيير السياسي الاقتصادي والاجتماعي في البلاد والحقيقة هي ان هذا المنطق له جذور ترتبط بمبدأ اعتبار لبنان نطاقا قابلا لاحتضان تشكيلة اقتصادية اجتماعية سياسية بمضمون التغيير المتداول أو المتخيل بعيدا عن الشروط المحيطة به إقليميا ودوليا وبمعزل عن القضية الوطنية التي لم تنحصر يوما بالاعتداءات الصهيونية والاحتلال الصهيوني لأجزاء من الأرض بل إن جوهرها هو منظومة الهيمنة الغربية الصهيونية الرجعية التي تتحكم بمفاصل النظام اللبناني القائم منذ امد بعيد وقد برهنت تجربة حرب تموز ان الحلف الاستعماري الصهيوني الرجعي يتحين الفرص لشن عدوانه ولمحاولة تدمير منظومة المقاومة والدفاع اللبنانية وهذا خطر دائم ومقيم ما بقي الكيان الغاصب على أرض فلسطين السليبة.

 

إن الفصل الافتراضي بين مرحلتي التحرير والتغيير هو فصل تعسفي كما يبين مسار السياسات الاقتصادية والمالية اللبنانية منذ انطلاق مرحلة ما بعد الطائف كما ان وهم استقلال لبنان عن الصراع العام حول مستقبل المنطقة وهو صراع بين محور المقاومة ومنظومة الهيمنة الاستعمارية الصهيونية الرجعية هو افتراض تعسفي لا أساس له.

يتبدى بكل وضوح ذلك الترابط بين المحلي والإقليمي في عبر التجارب الوطنية اللبنانية ورهاناتها وخياراتها طيلة نصف قرن من الزمن حيث تداخل كل شأن محلي مهما كان بسيطا بأبعاد إقليمية دولية يصعب عزلها فطرد الاحتلال الصهيوني من أرض لبنان اقتضى تضحيات جليلة لبنانية وفلسطينية وسورية وإيرانية ومهما حاولت بعض التنظيرات الذاتية التنكر لهذه الحقيقة فهي قاصرة عن إنكار الوقائع العنيدة والنافرة التي تؤكد ان ذلك الإنجاز الكبير لم يكن ليتحقق إلا من خلال انتماء المقاومين اللبنانيين إلى محور يعتنق فكرة الصمود والتحرر من هيمنة الاستعمار الغربي الصهيوني على المنطقة وهو المحور الذي مد مقاومتنا بعناصر القوة وبالخبرات واحتضنها في احرج اللحظات وكان شريكا أصيلا في صناعة المعادلات الرادعة وتطويرها حتى اليوم وهي علامة قوة المقاومة في لبنان.

استطرادا فإن ما ينطبق على لبنان ينطبق على المقاومة الفلسطينية التي ما كانت لتفرض انكفاء العدو الغاصب عن قطاع غزة ولم تمتلك مصادر قوتها طيلة العقود الثلاثة الأخيرة لولا الموقف السياسي السوري الصلب والدعم السوري الإيراني المشترك لخيار المقاومة الفلسطينية ولكفاحها ضد الاحتلال وحيث شكل التعطيل السوري المتواصل لمحاولات تصفية قضية فلسطين داخل المجموعة العربية شاهدا مستمرا على دور دمشق القومي في الحفاظ على خيار المقاومة الذي رفضت مقايضته بوعود كولن باول السخية بعد احتلال العراق وفي ذروة اختلال التوازنات في العالم وهي تدفع حتى اليوم كلفة التصدي للمشيئة الأميركية ورفض الإذعان للهيمنة الاستعمارية.

كما كانت المعركة ضد الكيان الصهيوني قومية إقليمية بالشراكة مع الشقيقين السوري والإيراني فإن المعركة الوجودية ضد غزوة التكفير التي دامت سنوات وهددت لبنان وجوديا ما كان ممكنا الانتصار فيها وحماية لبنان لولا الشراكة القومية الإقليمية التي جعلت التحرير هدفا ممكنا وكانت معادلة الشعب والجيش والمقاومة هي سقف الوعاء المحلي للمعركة التي انتهت إلى تفكيك العصابات الإرهابية والقضاء عليها دون الوقوع في فخ انقلاب المعركة ضد تلك العصابات إلى حرب اهلية لبنانية وذلك ما اتاحته حكمة قيادة المقاومة وحلفائها الذين وحدوا جهودهم في وجه مشاريع الفتنة المذهبية المدبرة.

الوقائع اللبنانية تشير بكل وضوح إلى ان النفوذ الأميركي والهيمنة الأميركية الغربية هما العقبة الرئيسية في وجه جميع الصيغ المتخيلة للتنمية ولبناء الدولة القوية القادرة التي يحلم بها الوطنيون بجميع مشاربهم والنضال ضد الهيمنة الأميركية القابضة على القرار السياسي والاقتصادي في لبنان هو التحدي الرئيسي الذي يواجه جميع احلام التغيير السياسي والاجتماعي التي انطلقت منذ السبعينيات بسقوف عالية وتضاءلت بعدما استنزفتها التجارب الصعبة والمعقدة.

فالأميركي اليوم هو من يلقي بثقله لمنع عودة الأشقاء السوريين الذين هجرهم العدوان الاستعماري إلى لبنان وهو من يحول دون تطور العلاقات بين لبنان وكل من سورية والعراق وإيران والصين وروسيا والهند وهو الأميركي الذي طارد الشاردة والواردة في محاولات السلطة اللبنانية لتحقيق خطوات إيجابية في العلاقة مع هذه الدول مهما كانت بسيطة وصغيرة والأميركي يمنع تزويد الجيش اللبناني بمقدرات دفاعية تطور من مناعة الردع الذي تفرضه صواريخ المقاومة وهو نفسه الأميركي الذي يحاول ابتزاز لبنان واستدراجه إلى التطبيع مع العدو لترسيم بحري يضمن الحقوق اللبنانية في المياه الإقليمية.

لا إمكانية موضوعية لبناء لبناني منفرد خارج قضية التحرر من الهيمنة الاستعمارية والانتماء إلى شبكة إقليمية من الشراكات ودون الالتفات إلى الفرص الجديدة المتاحة في الشرق الكبير وصعود نماذجه المتفوقة في البناء الصناعي والزراعي وفي امتلاك التكنولوجيا الحديثة انطلاقا من هوية تحررية رافضة للهيمنة الأميركية الغربية وفي منطقتنا يجب الانتباه دائما إلى أطماع الكيان الصهيوني الطامح لتنصيبه وكيلا حصريا للقوى الاحتكارية الغربية في العالم وهو يعمل من خلال آليات التطبيع الأميركية الناشطة وعبر السعي لتصفية قضية فلسطين ليعزز فرص تحوله إلى مركز للهيمنة بالوكالة وقد خبرت البلدان العربية التي عاشت تجارب الاتفاقات مع العدو طبيعة الأطماع الصهيونية التي تستهدف كل مظاهر الحياة ووجوهها.

إن أي مشروع للتغيير السياسي لا يرتبط برؤية استقلالية تنتمي إلى خيار المقاومة والتحرر سيبقى محاولة تجميلية لمستعمرة ومحاولة لتبرير خضوع لبنان للهيمنة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا بعيدا عن سراب الحداثة المزعومة التي يروجها المرتبطون بأدوات الحرب الناعمة الأميركية بجميع نسخهم الإقليمية والمحلية التي ينبغي فضحها وتهشيم منطقها المضلل لحماية الطامحين الصادقين إلى التغيير من أفخاخها السامة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى