بعد إسقاط طهران لطائرتها الشبح وسيطرتها عليها خيارات أميركا في الحرب على إيران د.منذر سليمان
بات التكهن بوقوع حرب بين إيران والولايات المتحدة مسألة تؤرق مصداقية كافة الأطراف المنخرطة، لا سيما مراكز صنع القرار الحساسة لدى واشنطن، بدءاً بعدم المراهنة على صوابية الرئيس ترامب وسرعة انقلابه، ومناخ المزايدات السياسية للحملة الانتخابية التي بدأت، فضلاً عن البعد الدولي الرافض ظاهرياً لتصعيد التوتر يرافقه خشية من ردود فعل الإدارة الراهنة.
نظرة هادئة لحيثيات الصراع وتداعياته الإقليمية والدولية تشير بوضوح إلى عدم ترجيح النخب الفكرية والسياسية الأميركية اندلاع اشتباك مسلح في المدى المنظور، اللهم إلا إذاّ ارتكب أحد الطرفين أو من ينوب عنهما في الإقليم خطأً يدفعهما للانزلاق بعيداً عن حافة الهاوية.
تتميز بعض اوساط تلك النخب برؤيا بلورية صافية ليس في بعد الاستراتيجية الأميركية فحسب، بل في تداخل جملة من العوامل والمصالح لمراكز قوى متعددة. وأضحت أكثر جرأة في تقييمها ومواجهتها “الفكرية” للرئيس ترامب معتبرة أنها جردته من أمضى أسلحته: غموضه وعدم القدرة على التنبؤ بخطواته المقبلة باتت قابلة للتكهن، حسب وصف يومية واشنطن بوست، 28 حزيران.
تلقي تلك النخب مسؤولية تدهور الأزمة والتهور نحو حرب قد تتطور نووياً على عاتق “سياسة الإدارة الأميركية التي حشرت إيران في زاوية قاسية من العقوبات مما اضطرها للرد،” وفق توصيف اسبوعية ذي ناشيونال انترست.
النخب الفكرية “الليبرالية،” ممثلة بدرّة انتاجها فورين أفيرز، تعتقد أن السياسة الأميركية للإدارة الحالية، بكافة أركانها، قد تم “اختطافها من قبل دعاة الحرب .. وفي ما يتعلق بالسياسة الشرق أوسطية فقد تعاقدوا مع اسرائيل والسعودية وربما الإمارات؛” اللواتي تسارع الخطى لحرف بؤر التوتر الإقليمية وتموضعها بمواجهة إيران.
البعد المالي بنظر أولئك يتمحور حول دعم ذوي الثراء الفاحش والمتشددين سياسياً للرئيس ترامب، أبرزهم الميلياردير شيلدون آديلسون وبول سينغر وبيرنارد ماركوس، الذين أرفدوا حملة ترامب الرئاسية، 2016، ومرشحي الحزب الجمهوري بنحو 259 مليون دولار “تبرعات،” وينتظرون ترجمة الإدارة لتوجهاتهم السياسية المعادية لإيران بالدرجة الأولى.
آديلسون من ناحيته حث بصريح العبارة المرشح دونالد ترامب على استخدام الخيار النووي ضد ايران، وسخّر نفوذه السياسي لاحقاً لتعيين جون بولتون في منصب مستشار الأمن القومي.
ترامب لم يشذ عن “توقعات” داعميه ومؤيديه من عالم المال والاستثمارات، إذ وعد أيران بحرب “إبادة تمحوها عن الوجود،” عشية مغادرته لقمة الدول الصناعية، رداً على تصريحات الرئيس الإيراني، حسن روحاني، برفض بلاده عرض التفاوض تحت التهديد وعزمها المضي بجهودها للقفز عن معدلات تخصيب اليورانيوم المنصوص عليها في الاتفاق النووي.
وحدد ترامب آفاق الحرب الموعودة مع ايران، في مقابلة مع شبكة فوكس نيوز، 27 حزيران الجاري، بأنها لن تتطلب انخراط قوات برية أميركية “.. لن تدوم طويلاً، والاشتباكات المباشرة ستكون محدودة.” هل يعتبر ذلك تلويحا ياستخدام الخيار النووي “التكتيكي” كما تروج له صناعات الأسلحة الأميركية.
رئيس مجلس العلاقات الخارجية، السياسي المخضرم ريتشارد هاس، حذر صناع القرار الأميركي من أهوال حرب مقبلة مع ايران “نتيجة تصاعد الضغوط الاقتصادية الأميركية عليها .. والتي لن تتشابه مع سابقتها حرب الخليج عام 1991. بل ستخوضها ايران بالقتال على امتداد مناطق جغرافية متعددة، بوسائط عدة، وقوات مختلفة؛” في ظل مناخ غضب حلفاء واشنطن من سياساتها التصعيدية.
روبرت كابلان، الذي يعد أحد أهم الركائز الفكرية المميزة لدى المؤسسة الحاكمة حذر من عامل الجغرافيا الإقليمية الذي ستستغله إيران لأقصى حد لا سيما ولديها الكثير من “الخلجان والمداخل والتجاويف البحرية والجزر .. التي تعد مواقع مثالية لإخفاء نظم أسلحة مختلفة على مسافة قريبة من قطع البحرية الأميركية” العاملة في الخليج.
على الطرف المقابل، يناور دعاة الحرب لايجاد المبررات لرد أميركي صاعق، تكون هي البادئة به لضمان عامل الصدمة والاستمرار بسياسة “ممارسة أقصى الضغوط؛” بالاستناد إلى تقييمهم لفعل العقوبات الاقتصادية على ايران مما حرم قواتها العسكرية من مزايا التحديث وتطوير الدعم اللوجستي الحيوي خلال المعارك.
ويقر اولئك بأن ايران اكتسبت خبرة قتالية في الحرب غير المتماثلة، معظمها في سوريا واليمن عبر أسلوب حرب العصابات، لكنها غير مؤهلة لمواجهة قوة عسكرية عظمى مدججة بأحدث الأسلحة؛ كما أن “سلاح طيرانها المحتفل باسقاط الطائرة الأميركية المسيّرة هو أقل قوة وكفاءة مما يبدو عليه للبعض.”
بناء على ذلك، وفق منطقهم ومبرراتهم، فإن الأجواء مهيأة لاختراق المقاتلات الأميركية وشن عمليات عسكرية في ظل عدم قدرة نظم الدفاع الجوية الإيرانية مواجهتها أو ايقافها.
جدير بالذكر ما ينقله أولئك من تفسير حول اسقاط طائرة الدرونز الأميركية بالإقرار أن القوات المسلحة الأميركية كانت على دراية تامة بأنها تحلق فوق الأجواء الإيرانية، والتي تعد مقبولة في ظروف السلم التي تحدد المياه الإقليمية بمدى لا يتجاوز ثلاثة أميال بحرية، لكنها لم تتوقع الرد الإيراني الفوري الذي يعزى “لعامل المفاجأة وليس بفعل التقنية المتطورة.”
العامل المغيب عند دعاة الحرب هو التداعيات الناجمة عن سياسة “أقصى الضغوط” أبرزها التهديد طويل الأجل على المصالح الأميركية في المنطقة و”الاستقرار الإقليمي،” كما يحاجج مناهضوا الحرب؛ فضلاً عن تصدع العلاقات الأميركية مع حلفائها الاوروبيين “وتعزيز النفوذ الروسي في المنطقة.” كما يتفادى اولئك تنامي منسوب الاستياء العالمي من السياسة الأحادية الأميركية، في عهد ترامب، والتي بدأت تلقي ظلال أضرارها على المواطن الأميركي ومستوى حياته اليومية.
الخيارات العسكرية: يسيل حبر وفير لترويج تفوق الترسانة العسكرية الأميركية، وهو أمر تقر به دول العالم قاطبة. كما أن المراكز المختصة والخبراء بالشؤون العسكرية عرضوا سيناريوهات لبوادر حرب استناداً إلى مناخ التصعيد الأميركي ضد إيران.
في هذا الصدد بالذات، ينبغي تسليط الضوء على التداعيات الاقتصادية على الولايات المتحدة، من وجهات نظر علمية متوازنة، والتي تتفادى المؤسسة الحاكمة ومعظم الوسائل الإعلامية الخوض فيها بشكل مفصل.
الاستثناء العلمي لتلك القاعدة كانت يومية بوسطن غلوب، 24 حزيران الجاري، بدراسة مفصلة لإحدى أشهر خبراء الاقتصاد الاميركي، الاستاذة الجامعية في هارفارد ليندا بلايمز وآخرين.
سنستعرض أدناه أبرز ما تناولته دراسة الخبراء الذين تنبؤا بدقة كلفة الحرب على العراق آنذاك، وتمت محاصرتهم والتشهير بهم من قبل نائب الرئيس ووزير الدفاع، ديك تشيني ودونالد رامسفيلد، على التوالي. تقول الدراسة:
كلفة الحرب على ايران ستتراوح بين 60 ملياراً إلى 2 تريليون، في الأشهر الثلاثة الأولى فقط.
الحرب حصراً لن تؤدي لتغيير النظام، أي نظام. نشوب حرب مع إيران لتحقيق تغيير النظام ستكون طويلة الأمد، مكلفة مادياً، وكارثية على الاقتصاد الأميركي والعالمي.
استشهدت بتصريح لوزير الدفاع الأسبق، روبرت غيتس، بقوله “إن اعتقد البعض أن الحرب على العراق كانت صعبة، فالهجوم على ايران، من وجهة نظري، ستكون كارثية.”
ارتفاع سعر برميل النفط إلى مستويات غير مسبوقة قد تصل لنحو 250 دولاراً للبرميل.
الاقتصاد الأميركي في حالته الراهنة مشبع بالعمالة، وأي ارتفاع حاد في الانفاق العسكري سينتج تضخماً اقتصادياً يحول دون تنفيذ مشاريع إعادة البناء وترميم البنى التحتية الداخلية المتهالكة.
وختمت الدراسة بالقول أن المؤسسة الحاكمة، ومنذ حرب فييتنام، تفادت فرض “ضريبة حرب” على المنتجات والمبيعات مما رسخ في أذهان المواطن ان الحرب تخاض بكلفة زهيدة أو معدومة؛ مما عزز تقويض الجدل العام حول ضرورات خوض الحروب، كسياسة واستراتيجية أميركية.