الشرق الأوسط و «الحرب التجارية» بين الولايات المتحدة والصين ديفيد بولوك
19 حزيران/يونيو 2019
لا يُعتبر الخلاف الاقتصادي الكبير المشتعل اليوم بين الولايات المتحدة والصين حرباً بالمعنى الحقيقي، ولا حتى حرباً اقتصادية، وإنما يمثل بصورة جوهرية تصعيداً لسلسلة من التعريفات العقابية، أو الضرائب التي بدأت كل دولة في فرضها على الواردات القادمة من الأخرى. وكانت خطوة البداية من نصيب الولايات المتحدة، والتي فرضت تعريفات جديدة وصلت إلى 25 في المائة على واردات صينية شتى بقيمة تقدر بمئات المليارات من الدولارات. وبعد ذلك، انتقمت الصين بالأسلوب نفسه. واليوم يهدد الجانبان باتخاذ مزيد من الخطوات في هذه الدائرة المفرغة.
بصورة عامة، يلحق هذا النوع من المنافسة السلبية الضرر باقتصاد كلا الطرفين، لأن الضرائب الجديدة تجعل الواردات أعلى سعراً، وبالتالي يضطر المستهلكون لسداد أسعار أعلى وشراء سلع أقل. ويترتب على ذلك تراجع في مجمل الحركة التجارية، ويتراجع معها النمو الاقتصادي في كلا البلدين. ولذلك يقول الكثير من الخبراء إن الحروب التجارية ليس فيها طرف فائز، وإنما خاسرون فقط ـ وإن كان من الممكن أن يتكبد أحد الطرفين خسارة أفدح عن الآخر.
مثلاً، تعاني بالفعل الصادرات الزراعية الأمريكية للصين، إحدى السلع الكبرى، بالفعل من ضرر بالغ جراء ما يدور بين البلدين. وبسبب ذلك وجد الرئيس ترامب نفسه مضطراً لتخصيص مليارات إضافية من الموازنة الحكومية لـ «إنقاذ» المزارعين المتضررين من موجة الزيادات الأخيرة في التعريفات المتبادلة بين البلدين.
لماذا أقدم ترامب إذن على هذه الحرب التجارية مع الصين؟ في الجزء الأكبر منها، يبدو ذلك محاولة لممارسة ضغوط على الصين لإصلاح بعض سياساتها الاقتصادية المهمة: التجسس الصناعي وسرقة الملكية الفكرية والنقل القسري للتكنولوجيا والإعانات الحكومية الضخمة لصناعات منتقاة وفرض قيود صارمة على الشركات الأجنبية في قطاعات جوهرية بعينها… وغيرها.
ويتفق الكثير من المراقبين الأمريكيين، ومن بينهم حتى بعض أقسى منتقدي ترامب من الليبراليين، أمثال الكاتب الشهير في صحيفة «نيويورك تايمز»، توماس فريدمان، على أن الصين تغش في التزاماتها في هذه المجالات أمام “منظمة التجارة الدولية” التي انضمت إليها منذ نحو عشرين عاماً.
ومن غير الواضح ما إذا كانت هذه التعريفات الجديدة ستكون فعالة في تحسين سجل الصين. إلا أنه حتى ولو لم تكن فعالة، تبقى هناك فرصة معقولة أن تتوقف الولايات المتحدة عن تصعيد هذه الدائرة لمستوى أكبر، كي تتجنب وقوع أضرار اقتصادية متبادلة أكبر. وفي الواقع ينصح بعض كبار صانعي السياسات الأمريكيين الآن بالتحلي بحذر أكبر في هذا الشأن. وأعتقد أن الولايات المتحدة والصين ستتوصلان قريباً إلى سبل للتوصل لاتفاقات، بدلاً من الاستمرار في التصعيد ومواجهة تكاليف أكبر وأطول أمداً.
ما تنبغي الإشارة إليه هنا أن أي رئيس أمريكي يملك سلطة قانونية وعملية كبيرة لفرض تعريفات وسياسات تجارية دولية أخرى. وتعتمد هذه السلطة الشخصية للرئيس على القوانين الأمريكية القائمة، مثل “قانون السلطات الاقتصادية الدولية الطارئة” والعديد من القوانين المشابهة الأخرى. ويتمثل الاختلاف الموجود اليوم في أن ترامب يبدو حريصاً للغاية على ممارسة هذه السلطة على نحو قوي ومفاجئ. وخلال مناقشات جرت بيني وبين مسؤولين وخبراء صينيين حول هذا الأمر، سواء في الصين أو واشنطن أو الشرق الأوسط، فوجئت باهتمامهم الشديد بأسلوب صنع القرار الذي يتبعه الرئيس الأمريكي الحالي والذي يتسم بالقوة ويتعذر التنبؤ به ـ بما في ذلك حقيقة أنه أحياناً يغير رأيه فجأة، حتى بخصوص القضايا الحساسة والمثيرة للجدل.
الآن ولأن الولايات المتحدة والصين أكبر اقتصادين في العالم (وإن كانت الولايات المتحدة لا تزال أكبر بكثير، وأكثر ثراءً بكثير بالنسبة للفرد)، ولأنهما شريكان تجاريان مهمان لبعضهما البعض، فإن انكماش التجارة بينهما لن يضر اقتصاد البلدين فقط، وإنما الاقتصاد العالمي ككل. ولذلك تميل أسواق الأسهم حول العالم، على سبيل المثال، إلى التراجع لدى ورود أنباء عن مزيد من التوترات التجارية الأمريكية ـ الصينية، وترتفع عندما تهدأ التوترات.
وينقلنا هذا أخيراً لتأثير هذه التوترات التجارية على الشرق الأوسط. إذا استمرت «الحرب التجارية» بين الولايات المتحدة والصين، وتسببت بالتالي في تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي أو حتى حالة ركود عالمي، فإن هذا سيؤدي بصورة شبه مؤكدة إلى تقليص نمو معظم اقتصاديات الشرق الأوسط هي الأخرى. ومن أبرز الأسباب وراء ذلك هو ميل أسعار النفط في الغالب إلى الارتباط المباشر بالإمكانات الاقتصادية العالمية. وعندما تنكمش هذه الإمكانات، تميل أسعار النفط نحو الانخفاض هي الأخرى ـ ويعتمد الكثير من اقتصاديات الشرق الأوسط على عائدات النفط، وبالتالي ستتعرض لأضرار مضاعفة. ومن المحتمل أن يشكل ذلك النتيجة الأهم على المنطقة لما يجري من مد وجزر في العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين.
ومن المحتمل أن تتعرض المنطقة لبعض التداعيات الأخرى، حتى وإن كانت بصورة غير مباشرة. وربما تبدأ الولايات المتحدة والصين في التطلع نحو مناطق أخرى بخلاف بعضهما البعض بحثاً عن أسواق جديدة ومداخلات اقتصادية وفرص استثمارية. وإلى حد معين، من الممكن أن يؤدي ذلك إلى إعادة توجيه بعض النشاطات الاقتصادية الأجنبية نحو عدد من المواقع المختارة في الشرق الأوسط. على سبيل المثال، يمكن أن تزيد الصين بدرجة كبيرة من نشاطات البناء وعدد من النشاطات الاقتصادية الأخرى في دول عربية ذات عدد كبير من السكان وأسعار منخفضة نسبياً، مثل مصر. وربما تتحرك شركات أمريكية في اتجاهات مشابهة.
وفي هذا الإطار، تتمثل نقطة بالغة الأهمية في أن دول الشرق الأوسط لن تضطر في معظم الأحوال إلى الاختيار بين بناء روابط قوية مع الصين أو الولايات المتحدة ـ على خلاف الحال مثلاً فيما يتعلق بالعقوبات الحالية التي تجبرها على الاختيار بين الولايات المتحدة وإيران.
وبالتالي فإن ازدياد الاهتمام الصيني والأمريكي بالفرص التجارية في الشرق الأوسط ربما يقلص الأضرار الاقتصادية الأوسع الناجمة عن «الحرب التجارية» بين الولايات المتحدة والصين.
ومع ذلك، تبقى هناك مجالات حيوية قليلة ربما سيتعين على دول الشرق الأوسط خلالها الاختيار بين الولايات المتحدة والصين، خاصة إذا استمرت العلاقات الاقتصادية بين الجانبين في التردي. ومن بين هذه المجالات القطاع الأمني وما يرتبط به من تجارة واستثمارات ـ سواء أسلحة أو تكنولوجيا سيبرية أو مواد خام حساسة.
ومن بين الأمثلة في هذا الجانب الاستخدام المتزايد لتكنولوجيا الاتصال عن بعد من شركة «هواوي» الصينية، وبيع معدات عسكرية أمريكية متقاعدة. وإذا تفاقم الصدع الاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين، فإن اهتمام كل منهما ربما يتزايد بتقييد سوق صادرات مثل هذه السلع الحساسة، وحرمان الأخرى منها. في هذه الحالة، ستتعرض دول الشرق الأوسط لضغوط أكبر من أي وقت مضى كي تتخذ قرارات صعبة تجاه هذه الخيارات الحيوية، التي تتميز بطابع جيوسياسي لا يقل أهمية عن الطابع الاقتصادي لها.
وبذلك فإنه بصورة عامة من المحتمل أن تترك «الحرب التجارية» الأمريكية ـ الصينية تأثيراً محدوداً أو غير مباشر على الشرق الأوسط. ويتعين على صانعي السياسات في الشرق الأوسط البحث عن تسوية ما لهذه التوترات التجارية القائمة بين العملاقين الاقتصاديين البعيدين. ومن شأن ذلك خدمة مصالح اقتصاديات الشرق الأوسط، إلى جانب الاقتصادين الأمريكي والصيني.
ديفيد بولوك هو باحث في معهد واشنطن .