إعادة بناء سورية: الأولويات، مصادر التمويل، الآفاق (49) حميدي العبدالله
في المقابل الأنظمة التي اعتمدت على النهج الاقتصادي الاشتراكي والشيوعي، بدأت هي الأخرى مراجعة هذا النهج وإعادة النظر به، وتكييفه على النحو الذي يستجيب للتحديات الاقتصادية والاحتياجات الاجتماعية. هذه المسيرة لم تبدأ بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي وزوال المنظومة الشيوعية، بل سبقت ذلك بسنوات طويلة. فمسيرة إصلاح النهج الاقتصادي بدأت في الصين في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، وتمثلت عملية الإصلاح, التي حققت نجاحات باهرة ونقلت الصين من بلد نامي إلى مصاف الاقتصادات الكبرى، حيث باتت تنافس الاقتصاد الأميركي على المرتبة الأولى في إجمالي الناتج المحلي، بالسماح للقطاع الخاص، المحلي والأجنبي، القيام بدور كبير في عملية التنمية الاقتصادية وعدم الاكتفاء بالاعتماد على القطاعات التي تمتلكها الدولة. ولعب القطاع الاقتصادي الخاص الذي تقوده الرأسمالية دوراً كبيراً في ما حققته الصين من معدلات نمو مرتفعة لفترة تزيد عن أربعة عقود، وهذا هو الذي قاد إلى أن تحتل الصين اليوم المرتبة الاقتصادية التي وصلت إليها. ولولا إصلاح النظام الاقتصادي لما حققت الصين ما حققته حتى الآن، بمعنى آخر الاستمرار بالتمسك بنظام اقتصادي يكرس احتكار الوظائف الاقتصادية من قبل الدولة ما كان له أن يحقق التنمية، وما كان يمكن حتى للنظام السياسي في الصين بقيادة الحزب الشيوعي أن يستمر، ولربما كان مصير النظام السياسي هو نفس المصير الذي لاقاه النظام السياسي في الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية، أي الزوال. لكن إصلاح النظام الاقتصادي، وقيام نظام جديد قائم على التعددية الاقتصادية، أي أن يكون للدولة دور اقتصادي، وأن يكون للقطاع الخاص دور أيضاً ، كان السبب وراء النجاحات الصينية على مستوى التنمية الاقتصادية، والتي ساعدت على بقاء النظام السياسي، وتحصينه في مواجهة محاولات تغييره سواء جاءت من الداخل أو من الخارج.
ليست الصين وحدها التي أعادت النظر بنظامها الاقتصادي وإصلاح هذا النظام عبر اعتماد النظام الاقتصادي المختلط، بل إن كوبا، وهي مثلها مثل الصين يقودها ويحكمها حزب شيوعي هي الأخرى قامت بإصلاح اقتصادي عبر الانفتاح على الاستثمارات الخارجية والسماح للقطاع الخاص، المحلي والأجنبي، الإسهام في التنمية الاقتصادية في مجالات محددة. ويمكن الاستنتاج أنه بفضل هذه الإصلاحات تمكنت كوبا من مواجهة الكثير من التحديات الاقتصادية والاجتماعية، وانعكس كل ذلك إيجابياً لمصلحة صمود نظامها السياسي في مواجهة الضغوط الخارجية، وتحديداً ضغوط الولايات المتحدة، وحصارها الاقتصادي طويل الأمد لكوبا.
إذن بات في ضوء كل هذه التجارب في الدول الرأسمالية، وتحديداً في ضوء النقاش الدائر في الولايات المتحدة حول ضرورة إصلاح الرأسمالية الصرف، وفي ضوء التحولات في النظام الاقتصادي في الصين وكوبا وهما الدولتان الشيوعيتان، أن ليس هناك أي مكانة لإيديولوجية اقتصادية، أو لنظام اقتصادي، يعتمد الاشتراكية الصرفة، أو الرأسمالية الصرفة، وأن النظام الاقتصادي الأمثل الذي ساعد على تعبئة الموارد والإمكانات وحشدها في عملية التنمية هو النظام الاقتصادي المختلط، لأن هذا النظام يحوز ويوظف أفضل ما في النظام الرأسمالي من مزايا على مستوى الأداء الاقتصادي، وفي المقابل يقوم باحتواء التداعيات السلبية للأداء الاقتصادي الرأسمالي الصرف، ولاسيما في المجالات الاجتماعية، مثل الصحة والتعليم والسكن والبنية التحتية. وعندما «يكون الاقتصاد مختلطاً، حيث تتغير فيه الأدوار بين الحكومة والقطاع الخاص إلى درجة ما بهدف حل المسائل الأكثر إلحاحاً», كما يقول سميث, تحقق الاقتصادات نجاحاتٍ كبيرة في مجال التنمية وفي المجال الاجتماعي، لاسيما وأن النجاحات في المجال الاجتماعي تساعد بدورها على تحفيز التنمية من خلال تقوية الطلب وتنشيط الدورة الاقتصادية، في حين أن أداء الاقتصاد متجاهلاً الاحتياجات الاجتماعية من شأنه أن يؤثر سلباً على القدرة الشرائية، وبالتالي يضعف الطلب، وذلك يقود إلى تراجع الدورة الاقتصادية. وحتى توسع الاقتصاد بالاعتماد على التصدير إلى الأسواق الخارجية، وبالتالي تنشيط الدورة الاقتصادية وتوسيع طاقات الأشغال والعمالة لم يعد ممكناً في الظروف الراهنة للنظام الاقتصادي السائد دولياً. في عصرنا الحالي زاد عدد الدول المنتجة والتي تبحث عن تصريف منتجاتها خارج حدودها الوطنية، لم تعد الصين وحدها التي تنافس منتجات الدول المتقدمة في كل الأسواق الخارجية، بما في ذلك أسواق الدول المتقدمة، وشملت هذه المنافسة جميع المنتجات، بما في ذلك منتجات الهاي تك والتكنولوجيا المتقدمة، بل دخلت إلى نادي الدول المصدرة دول مثل الهند والبرازيل وكوريا الجنوبية، وأصبح التنافس أكثر قوة وقسوة، ولعل السياسة الاقتصادية التي يتبناها الآن الرئيس الأميركي دونالد ترامب والتي تعيد العمل بنظام الحمائية وفرض الضرائب الجمركية العالية، ومخالفة قوانين منظمة التجارة الدولية التي حررت التجارة العالمية، ما هو إلا ثمرة ونتيجة لاشتداد هذه المنافسة، وتراجع الرهان على قطاع التصدير في التوسع الاقتصادي وحل المشاكل ذات الطبيعة الاجتماعية الناجمة عن اعتماد النظام الاقتصادي الصرف.
هكذا باتت جميع دول العالم، سواء الدول التي تعتمد الرأسمالية الصرفة أو الحقة، أو الدول التي تعتمد النهج الاشتراكي، بحاجة لمراجعة أنظمتها الاقتصادية واعتماد نظام يقوم على «الاقتصاد المختلط» الاقتصاد الذي «تتغير فيه الأدوار بين الحكومة والقطاع الخاص» ليكون بمقدوره «حل المسائل الأكثر إلحاحاً، بعض هذه المسائل ذات طابع اجتماعي» ولكن لها مفاعيل اقتصادية، وبالتالي لا يمكن إدارة الظهر لها بذريعة أنها مجالات للإنفاق من دون مردود اقتصادي.