إعادة بناء سورية: الأولويات، مصادر التمويل، الآفاق (48) حميدي العبدالله
عادةً ما يوجه الانتقاد الذي يقول إن الاقتصاد السوري يفتقر إلى الهوية، وغالباً لا يحدد المنتقدون ماذا يقصدون بهوية الاقتصاد، إذا كان المقصود بالهوية الناحية الإيديولوجية، أي أن الاقتصاد السوري غير معروف ما إذا كان اقتصاداً رأسمالياً صرفاً أو اشتراكياً، فإن النقاش من هذه الناحية تجاوزه الزمن وبات نقاشاً عقيماً، لأنه لم يعد هناك دولة في العالم قادرة على تبني رؤية أحادية. حتى في الدول الرأسمالية الأكثر تطرفاً في رأسماليتها مثل الولايات المتحدة يعد نقاشاً عقيماً، وفي أوساط الخبراء الاقتصاديين يشيرون إلى قصور النهج الرأسمالي الصرف المعتمد من قبل الحكومات الغربية، وتحديداً من قبل الإدارات الأميركية المتعاقبة .
كتاب «لستر ثارو» مستقبل الرأسمالية الذي صدر في تسعينات القرن الماضي، وعلى الرغم من أن الكتاب صدر في ذروة انهيار الاتحاد السوفيتي، ومع انطلاق دعوات نهاية التاريخ، إلا أنه حلل بعمقٍ كبير مشاكل وتحديات الرأسمالية الصرفة ونهجها الليبرالي الأكثر تشدداً، وعكس نتائجه المؤثرة بقوة على أداء الاقتصاد.
لم يكن لستر ثارو وحده الذي سفّه النظريات التي تمجد الرأسمالية الصرفة، بل إن جوزيف ستيغليتز هو الآخر الذي كان يشغل منصب كبير الاقتصاديين في إدارة الرئيس الأميركي بيل كلينتون، والحائز على جائزة نويل في الاقتصاد، انتقد بقوة في كل أعماله نهج الرأسمالية الصرفة.
وعاد النقاش إلى التصاعد من جديد بعد أن وصل الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض واعتمد سياسة قائمة على المزاوجة بين الرأسمالية القومية والتطرف لمصلحة الرأسمالية على حساب الفقراء وأصحاب الدخل المحدود والفئات الأقل قدرة اقتصادياً. في أحدث مقالة للعالم الاقتصادي الأميركي المعروف «نوح سميث» نشرت بتاريخ 3/4/2019 نشرت في دورية بلومبيرغ خلص حرفياً إلى الآتي: «عندما يبدأ كبار خبراء الاقتصاد في البحث عن ماهية فكرة الرأسمالية، ندرك أن النظام أمسى في ورطة». نعم في ورطة هذا ما يستنتجه عالم اقتصاد أميركي، ويثبت استنتاجه على صفحات أهم دورية اقتصادية أميركية مؤكداً أن الرأسمالية الصرفة لا تمثل حلاً حتى في دول الاقتصادات المتقدمة فكيف الحال في اقتصادات الدول النامية مثل سورية. كلام سميث لا يطلق في الهواء، بل يستند إلى شهادات وكتابات كبار خبراء وعلماء الاقتصاد في الغرب إذ ينقل عن البروفسور «انغوس دايتون» الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد قوله إن هذا العالم الكبير علق مؤخراً على كتابين نشرا في الغرب «من تأليف اثنين من خبراء الاقتصاد المرموقين» هما «راغورام راجان» و«بول كولير» طرحهما لوجهات نظر قائلةً «بأن الرأسمالية نظام اقتصاد معيب». نعم يقولان أن الرأسمالية نظام اقتصاد معيب، هما ليسا عالمان اشتراكيان، بل من كبار الخبراء الاقتصاديين الغربيين.
يوضّح ما قصده في تحليلاته، إذ يأسف راجان «على انهيار المجتمعات المحلية في مواجهة الحكومات القوية والأسواق الكبيرة» في حين يناقش السيد كولير «مبدأ الجدارة في تركيز المواهب والأموال» ويخلص إلى نتيجة على جانبٍ كبير من الأهمية إذ يعتبر كولير «التفاوت الواضح في الدخل والثروة» هو محور الانتقادات الكبيرة الموجهة نحو الرأسمالية من جانب خبير الاقتصاد الفرنسي توماس بيكيت في كتاب «الرأسمال في القرن الواحد والعشرين».
وفي مطلق الأحوال ، وبمعزل عن تعريف ماهية الرأسمالية كما يقول سميث وماذا «تعنيه الرأسمالية» على وجه التحديد، فهل تعني الملكية الخاصة؟ أم تعني الملكية الصناعية الخاصة؟ أم تعني اقتصادات السوق؟ أم تعني أسواق الأصول العامة وملكية الأسهم؟.
بمعزل عن كل ذلك وعن كل هذه الأسئلة المطروحة التي تعكس البلبلة حول مفهوم الرأسمالية إلا أن سميث طرح سؤالاً رافق التجربة الرأسمالية منذ ولادتها «ما الذي ينبغي القيام به لإصلاح النظام الاقتصادي في الولايات المتحدة؟». أي أن الرأسمالية في أكثر البلدان تطرفاً في الالتزام بها، نظامها الاقتصادي بحاجة إلى إصلاح، أي أن الرأسمالية الصرفة ليست بالضرورة هي الوصفة الأكثر نجاعة والتي تخلص البشرية من شرور طالما شكت منها وإزاء قصور الرأسمالية الصرف، ونموذجها الأوضح وهو النموذج القائم في الولايات المتحدة يقول سميث «يبدو أن المقاربة المرجح بشدة نجاحها هي محاولة تعديل النظام الاقتصادي الحالي» ليكون «اقتصاداً مختلطاً حيث تفند فيه الأدوار بين الحكومة والقطاع الخاص إلى درجة ما بهدف حل المسائل الأكثر إلحاحاً» ويقترح سميث أن يشمل إصلاح الرأسمالية الأميركية، وهي الرأسمالية الأكثر تطرفاً في العالم إجراءين: الأول، أسماه «الاستدامة» وشرح ماذا يقصد بالاستدامة بقوله «فما من نظام اقتصادي، رأسمالي أو غير رأسمالي، إن كانت التغييرات المناخية سوف تحيل كوكب الأرض إلى مكان غير صالح للسكن» أما الإجراء الثاني «فيمكن من نزع الشعور السائد بعدم الأمان المادي لدى المواطن الأميركي» ويضيف «فبدلاً من النظر إلى الأرقام الاقتصادية الإجمالية، مثل الناتج المحلي الإجمالي، أو حصة الثروات التي بحوزة واحد من المائة من المجتمع، ينبغي علينا النظر إلى المحددات الأساسية لمسببات الارتياح والأمان المادي» ويحدد المجالات التي يحتاج فيها الشعب الأميركي للارتياح، ولا يمكن أن يتحقق من دون تعديل وإصلاح النظام الاقتصادي الرأسمالي القائم الآن «إن بعض البنود الباهظة التكلفة تلقي بأعباء هائلة على كاهل الأسر الأميركية» ويحدّد ذلك على النحو الآتي «ارتفاع أسعار المستهلكين حتى وإن كان بوتيرة بطيئة عن الدخل» وكذلك «فإن أسعار الرعاية الصحية، والمصروفات الدراسية، ورعاية الأطفال قد ارتفقت بوتيرة أسرع». وفي كل هذه المجالات مطلوب إصلاح في أداء النظام الاقتصادي الرأسمالي الأميركي السائد.
لا شك أن تمركز الثروة بيد واحد بالمئة من السكان وفقدان عشرات الملايين من الأميركيين الحصول على الخدمات الرئيسية بأسعار تتناسب مع دخولهم، هو نتيجة لطبيعة النظام الاقتصادي الرأسمالي السائدة الآن في الولايات المتحدة والذي يطالب الاقتصاديون وفئات اجتماعية واسعة بتنفيذه.