ماذا يعني تهميش الجامعة اللبنانية ؟
غالب قنديل
الظلم اللاحق بالجامعة اللبنانية يتوسع ويتعزز وهو يتخطى مسألة الموازنات والاعتمادات وتعويضات الأساتذة المتفرغين وتوسيع نطاق الاعتماد على التعاقد بما يقضي على فرص استقرار الحياة الأكاديمية ويحول دون تنمية البحث العلمي ومراكمة المعرفة العلمية والخبرات التقنية الوطنية في مختلف المجالات .
عندما يفوق عدد طلاب الجامعة الوطنية الثمانين ألفا من أبناء الفئات الوسطى والفقيرة فهذه كتلة هامة في سوق التعليم تنظر إليها الجامعات الخاصة كطرائد ينبغي اصطيادها بعدما أفلتت منها نتيجة الضائقة الاقتصادية وتلك الجامعات التي تحظى بالرعاية منذ نشوئها المتلاحق بعد حرب السنتين تكرس الانقسام اللبناني وتوزع المواطنين وفق الطوائف والمناطق اللبنانية بينما الجامعة الوطنية عابرة للمناطق والطوائف ولو تفرعت على قياسها لكن جسدها واحد وقضاياها واحدة رغم القوى السياسية والحزبية التي تعمل على تشطيرها بخنادق الصراعات المقيتة فالجامعة الوطنية والجيش الوطني وتلفزيون لبنان وإذاعة لبنان هي رموز لدولة وطنية لم تقم ولم تبن وما تزال جنينا مهددا بالموت ولذلك تكشف الموازنة حجم استهداف تلك الرموز والدعائم الكبرى والتصميم على إضعاف الهوية الوطنية.
في نقاش الموازنة يتبين ان ظلما كبيرا يلحق بالجامعة التي تطالب إدارتها بالتراجع عن حسم أربعين مليارا من موازنتها وهو مبلغ زهيد لا يقدم ولا يؤخر في زحمة مليارات الهدر التي يتحدث عنها المسؤولون وفي نفقات يجوز الشك بجدواها من نوع السفريات والمواكب والزيارات والزهور والهدايا والعطاءات الخيالية المتناثرة هنا وهناك.
تستحق الجامعة اللبنانية برنامجا خاصا في الموازنة ومشروعا تمويليا كاملا من خلال رسوم تفرض على الكثير من المعاملات لتمويل صندق الجامعة وبالأخص لتطوير مجالات البحث العلمي والتقني داخل الجامعة الوطنية وتستحق الجامعة تعزيزا لموازنتها يتيح صيانة المباني والمختبرات وتوسيع السكن الجامعي بما يواكب توسع انتشار الكليات في المناطق فلا يجوز ان تتعطل الدراسة لأن مبنى إحدى الكليات يعيش تحت وطأة اهتراء الشبكة الكهربائية الداخلية او طوفان المجارير وقد شهدنا كثيرا من ذلك خلال العامين الماضيين في قلب مدينة الحدث الجامعية ولا يجوز ان تمتلك بعض الكليات بناء ضخما ثم تكون مقرات مختبراتها فارغة من التجهيزات لعدم توفر اعتمادات كافية.
إن مستقبل حياة ثمانين ألف لبنانية ولبناني مرتبط بوضع الجامعة اللبنانية وهو ما يعني ثمانين ألف عائلة أي ما يقارب نصف مليون مواطن فهل يعقل إهمال الأمر وعدم استدراك هذه المشاكل التي تعني اللبنانيين؟.
المسألة المطروحة تتعلق بتعليم طلاب الجامعة اللبنانية وتامين فرص العمل المناسبة لهم بعد التخرج وعدم جواز تركهم في المجهول وهنا الطامة الكبرى فقد تحول بعض شبابنا إلى تجميع شهادات الليسانس والدكتوراه في اكثر من اختصاص بسبب ضيق فرص العمل لأن الحكومات المتعاقبة ألقت وعودا كثيرة وسخية عن تأمين العمل للخريجين ولم تتقدم بخطة واحدة او بفكرة مجدية واحدة في هذا المجال والحكومة الحالية جارية على هذا المنوال بعيدة كل البعد عن الجدية في مقاربة القضايا الفعلية ناهيك عن البحث في الخطط المستقبلية الممكنة.
لا وجود لأي عمل جدي في لبنان يتعلق بإحصاء دوري لمجالات توظيف الخريجين الجدد في القطاعين الخاص والعام ولا وجود لأي خطة عمل تستثمر اكتشافات وبحوث الخريجين اقتصاديا وإمكانية تطبيقها أو توظيفها محليا او خارجيا وتوفر لأصحابها فرص الانطلاق المهني بعد التخرج ولا برامج للتمويل والتسهيلات المصرفية لمشاريع الشركات التي يقيمها الخريجون الجدد ففي دول اخرى تقدم الحكومات تمويلا وسلسلة إعفاءات لشركات الخريجين ولمشاريعهم المنتجة وتدعم تسويق المنتجات وتشتري قسما منها بأسعار تشجيعية وهذا مطبق في عدد من النماذج الاقتصادية العالمية المختلفة كبعض الدول الأوروبية مثل إيرلندا وألمانيا وهو موجود أيضا في الصين التي مولت مشاريع ملايين الخريجين داخل البلاد وخارجها ووصف ذلك بانه كان وسيلة التسلل الاقتصادي إلى الولايات المتحدة لنقل التكنولوجيا كما تقول دراسة اميركية انه الطريق الذي اعتمد بنفس طويل لزرع مستثمرين صينيين في معظم الدول الإفريقية.
لا يوجد عندنا أي توجيه جدي اكاديمي ومهني للطلاب نحو فروع التعليم الجامعي الأقرب إلى فرص العمل المتاحة في السوق المحلية وبكل صراحة إن واقعنا في هذا المجال هو مهزلة سخيفة تناقض كل العجرفة والكنفشة الكذابة والتفاخر الفارغ عن بلد الإشعاع والنور الذي تضيق فيه فرص تعلم الفقراء وعملهم اكثر فاكثر وتبلغ الخصخصة أقبح صورها في التعليم والاستشفاء.
من يهمش الجامعة اللبنانية لا يريد وطنا بل كونفدرالية مزارع للعصبيات والمحاسيب ولا هو يريد اقتصادا منتجا ومتقدما بل مزيدا من نموذج الدكان والكازينو والكباريه ومن يهمش الجامعة يريد بلدا مخلعا بلا هوية خاضعا لهيمنة الغرب ويستورد نموذجه الاستهلاكي الممسوخ تسوده طغمة مترفة يمكنها ان تلم حقائبها وبيانات أرصدتها وترحل مع أي خطر قادم فهي رحالة بطبعها كأموال المضاربات بلا وطن.