موازنة لانعدام التوازن! بقلم ابراهيم عوض
الحديث الطاغي على الساحة المحلية الآن هو عن الموازنة، التي يجري نقاشها في جلسات متتالية لمجلس الوزراء، بعد أن أعدّها وزير المال علي حسن خليل وجُهد وزارته، على مدى أشهر، في صياغة الأرقام والحسابات التي من شأنها أن تنتشل لبنان من المأزق المالي الكبير الذي يعيشه كما أوحي لنا واستبشرنا خيراً .
ها قد مضت ثلاثة أسابيع وأكثر في الانكباب على تمحيص الموازنة المذكورة. واللافت أنه بعد كل جلسة لمجلس الوزراء تطالعنا الأخبار، أو يتم إبلاغنا، بأن الجلسة المقبلة للمجلس ستكون الأخيرة التي ينتهي فيها الوزراء من دراستها وإقرارها قبل إحالتها الى الهيئة العامة لمجلس النواب، حيث هنا التوقيع الأخير النافذ الذي بالامكان بعد حصوله القول “مبروك ولدت الموازنة”.
حتى ذلك الحين يبقى الجدال قائماً والأخذ والرد على أشده. وآخر ما بلغت أسماعنا “خبرية” أن هناك موازنتين. واحدة للوزير الخليل والثانية لوزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل. وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن الخلاف مستشرِ ومتشعب داخل مجلس الوزراء وخارجه. ومع ذلك لن نستبعد تفاهما يحصل في اللحظة الاخيرة يطلع بعدها وزير الاعلام جمال الجراح ليبشر اللبنانيين بالانجاز الكبير الذي حصل، حتى ليظن المرء بأن جميع المشاكل المالية المشكو منها قد حُلّت، وباب الفرج فُتِحَ على مصراعيه. وبات بالامكان لرب البيت، مهما كان عمله، موظفاً أو أجيراً أو عاملاً أو سائقاً.. أن ينام قرير العين مطمئناً إذ سيصحو ليجد مصروف بيته مؤمناً. وأولاده سيدخلون المدارس بسهولة من دون عناء الأقساط ولا ارتفاع قيمتها ومتطلباتها. كما لن يستجدي المستشفيات بعد اليوم، اذا ما احتاج الى سرير على نفقة الضمان. أو هرع الى الطوارئ، لا قدر الله، تحت ضغط أوجاع مفاجئة ووضع صحي مضطرب يواجه بلاءات عدم الاهتمام وتلقي العلاج ما لم يدفع “المعلوم” أو المتوجب عليه وفقاً للائحة المستشفيات التي تحدد فيها أسعارها وكأن “بني آدم” سلعة تُباع وتُشترى.
إفرح أيها اللبناني. ها قد باتت للدولة اللبنانية موازنة. وكأن في الامر غرابة. علماً أنها من البديهيات التي لا تتوقف عندها الدول باعتبارها “تحصيل حاصل” ليست بحاجة الى طبل وزمر ولا الى مؤتمرات دولية على غرار “سيدر” وغيره لحث المسؤولين على أداء واجباتهم، وربط تنفيذه باقرار اصلاحات لم نرَ أثراً واضحاً لها حتى الساعة، بشهادة عدد من الوزراء واختصاصيين في المال والاقتصاد. وعلى ذكر “سيدر” لا بد من الاشارة الى أن ما ورد فيه، أو ما سيأتينا منه، ليس هبات وتقديمات بل قروض، لكن ميسّرة يؤمل ان تُحسّن أوضاعنا مع خطين تحت كلمة تُحسّن. بمعنى أن فانوس “سيدر” لن يكون سحرياً، كما يحاول البعض ان يصوره، فيما الحقيقة، كما ذكر أحد العارفين لدى تشريح ما تضمن، أشبه بمريض في العناية الفائقة تحسنت حالته بعض الشيء فنُقِل الى غرفة منفردة يحظر دخول الزائرين اليها كونه تحت المراقبة الدقيقة.
مع ذلك إفرح أيها اللبناني. فقد ظهرت معجزة رغم انتفاء زمن المعجزات ووُفِّق القيّم على شؤونك باجتراح موازنة تنتشل وطنك من الدين العام الغارق فيه بحيث بات بامكانك العيش ببحبوحة والتنعم بكهرباء 24/24 بعد القضاء على “مافيا” أصحاب المولدات. وكذلك على الكسالى في مؤسسات المياه الذي ينشطون في جباية فواتر مياه لا تراها في “حنفياتك” الا في ما ندر، بينما الرائج الاستعانة بشاحنات محملة بمياه لا نعرف من أين أتت ومن زودها بها تمد لك خراطيمها لتعبئ خزاناتك لقاء مبلغ لا بأس به يتراوح ارتفاعا وهبوطا وفقاً لحاجتك. مع التمني بالابقاء على أغنية الفنان الكبير الراحل وديع الصافي “جنات على مدّ النظر” والتغاضي عن مشهد جبال النفايات الموزعة على أكثر من منطقة.
في حديث صحافي له، قال وزير الصحة الدكتور جميل جبق مبدياً تأثره بما آل اليه وضع اللبناني :”أن 60% من الشعب اللبناني يتناول أدوية أعصاب نصفهم بشكل دائم. و40% لديهم الاستعداد ليحذو حذوهم بسبب ضغط المشكلات التي تنعكس على نفسية اللبنانيين”.
هل من مبالغة في كلام الوزير؟!.
بالتأكيد لا.. لكن هل سنسمع قريباً الاخبار الطيبة التي تفيد بأن الموازنة التي ستهل علينا ستقضي على مرض الأعصاب الآنف الذكر، أو على الأقل ستفضي الى تراجع في أعداد المصابين به؟ّ.
نأمل ذلك بالتأكيد لكن التجارب مع دولتنا العلية غير مشجعة. ولطالما تلقينا ونتلقى الصدمات. جديدها على ما يبدو محاولة الالتفاف على قرار خفض رواتب الموظفين بتقليص تعويضات نهاية الخدمة وغيرها من الحوافز التي تساعد الموظف في البقاء على قيد الحياة. ولا داعي للتفسير والشرح هنا على ما أظن..
الموازنة مطلوبة من دون شك لكن أول ما عليها علاجه لا مسألة الأعصاب فحسب بل اعادة التوازن الى جسم اللبناني الذي مضت عليه سنوات وهو يعاني من الدوران في الفراغ والمجهول..
(عن “البيان” الطرابلسية)