كسر احتكار التكنولوجيا يتحدى الهيمنة
غالب قنديل
منذ ثلاثين عاما تضج وسائل الإعلام الأميركية بروايات عن براعة القراصنة الصينيين في الاستيلاء على نسخ البرمجيات المتطورة بينما حولت الإمبراطورية الأميركية نموذجها لقوانين “حماية الملكية الفكرية ” إلى وصفة إذعان عالمية ورعت السفارات الأميركية حملات لترويج سن التشريعات المحلية ولفرضها على جميع دول العالم بعد استنساخها عن الأصل الأميركي ونشرت تلك النماذج عبر السفارات ومن خلال منظمة التجارة العالمية وحركت واشنطن جميع ادواتها لضمان إقرارها في سائر البلدان والانصياع للمشيئة الأميركية التي حولتها إلى قضية امن قومي اميركي في التعامل مع جميع دول العالم الكبيرة والصغيرة.
شهدنا في لبنان حملة تسويق شاملة لهذا النوع من التشريعات منذ تسعينيات القرن الماضي وكان الظاهر منها هو رأس جبل الجليد فقد استهدفت التدابير العقابية بناء على التشريعات المتصدرة محطات التلفزيون المحلية التي بثت أفلاما ومسلسلات أميركية دون دفع كامل قيمة الحقوق التجارية المترتبة للشركات الأميركية وظهرت أيضا حقوق الملكية الفنية للموسيقى والأغاني وقد كان البارز في الحملة الأميركية لتسويق تلك التشريعات هو ادعاء اخلاقي بفرض احترام القوانين وعدم انتهاك “حقوق الآخرين” لكن في مجال الصناعات الحديثة والمتقدمة كان القصد الأكبر والأهم ينصب على منع انتقال التكنولوجيا خارج منظومات السيطرة الأميركية على العالم ومنع شعوب ودول العالم من امتلاكها وتوظيفها في نمو مستقل.
ظهر احتكار التكنولوجيا بالتزامن مع سطوع الهيمنة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية في دول الغرب والعالم كله وبدا واضحا في العقدين الماضيين ان تحدي التقدم التكنولوجي وتوطين العلوم الحديثة وتطويرها وتأصيلها تقنيا هو رافعة الاستقلال والتنمية في دول كثيرة من العالم تتطلع إلى الانعتاق من الهيمنة الأميركية والغربية لتبني نموذجها الخاص في سياق ثورة صناعية وطنية وعلى قاعدة استقلالها في بنائها لاقتصاد وطني متحرر ذاتي المركز.
من الصعب رسم أي حدود لانتشار المعرفة البشرية والتكنولوجيا في العالم ضمن رقعة جغرافية وقومية محددة وكان التناقض الجوهري الذي يصدع الحملات الدعائية الأميركية لبسط الهيمنة هو حقيقة ان العولمة شكلت ميلا موضوعيا في التطور التاريخي للمجتمع البشري أخضعته الولايات المتحدة لسيطرتها وجعلت منه حاملا لتثبيت هيمنتها بينما هو في الواقع انطوى على نقيض الهيمنة الإمبراطورية من خلال إتاحة فرص انتقال المعارف العلمية والتكنولوجيا بطرق متعددة إلى نخب طامحة في مختلف دول العالم ومن شعوب وقوميات متعددة ومما لاشك فيه ان الصين وروسيا وإيران وغيرها من دول الشرق الصاعدة واجهت تحدي الهيمنة الأميركية والتفوق التقني الأميركي بالعمل على اكتساب المعارف والتقنيات والخبرات وتوطينها وتأصيلها وطنيا بشكل قاد فيه التراكم الواقعي إلى تحول نوعي فامتلاك التكنولوجيا النووية يلخص قضية التحرر الإيراني من الهيمنة وتطوير التقنيات الروسية المتفوقة في صناعة سلاح الصواريخ بمختلف احجامها وانواعها يكثف التحدي الأبرز لاستراتيجيات الحروب الإمبراطورية الأميركية بينما يطرح التفوق الصيني في تكنولوجيا الاتصالات التحدي التجاري الأوسع الذي يزلزل الهيمنة الأميركية على أسواق العالم لدرجة تصبح فيها شركة صينية عالمية الانتشار مثل “هواوي” نموذجا وعلامة تجارية للانكسار والتراجع الأميركي.
الثورة التقنية الصينية تحمل خصائصها الوطنية الخالصة ولا يفيد الأميركيين شيئا تذكير العالم بان هذا المارد انطلق بقرصنة المعلومات من الشبكات الأميركية وتأسس بجيش من المهندسين والمغامرين المنظمين في شبكات رعتها الدولة الصينية في الخفاء كانت مهمتها “خطف” العلوم والتكنولوجيا ونقلها إلى الوطن وتأسيس مراكز أبحاث وتطوير صناعية صينية يتفوق إنتاجها اليوم على النسخ الأميركية الرائجة خصوصا مع تحدي الجيل الخامس من الهواتف الذكية والوثبة الصينية في عالم برمجيات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.
الإحباط الأميركي تترجمه أرقام المبيعات وهو المؤشر المؤلم الذي يسبب غصة لا تخفى في تصريحات دونالد ترامب وتهديداته المواكبة لحربه التجارية الضروس ضد الصين وضد تدفق البضائع الصينية “الغازية” في تناقض فاضح مع مفهوم العولمة الأميركي المزعوم وأسطوانته عن القرية العالمية الواحدة والسوق العالمية الواحدة.
إنه شعور يشبه الإحباط والضيق الذي يشعر به بعض الخاضعين للهيمنة الأميركية داخل الغرب نفسه والمتململون من الضرائب والرسوم الجمركية على صادرات النبيذ والأجبان الفرنسية وحيث لا تفيد المفاخرة الفرنسية بدور فرنسا في دعم الثورة الأميركية او في نقل خبرات صناعة النبيذ والاجبان إلى شمال القارة الأميركية ولا الخطب البريطانية عن كون المهاجرين الأنكلوسكسون الذين شكلوا طلائع الهجرة إلى “العالم الجديد” (وكانوا في معظمهم مغامرين ولصوصا وقطاع طرق هاربين ) هم مؤسسو تلك الإمبراطورية التي تلسعهم سياساتها المتنمرة والإخضاعية ويؤلمهم استلاؤها على مكانة كانت مجوزة قبل قرون للإمبراطورية العظمى التي “لا تغيب عن ممتلكاتها الشمس ” وبات جل طموحها حجز مكان في المكاتب الاستشارية لجنرالات الحرب الأميركيين كما حصل في غزو واحتلال العراق وأفغانستان حيث حظيت تلك الإمبراطورية السابقة بفتات المغانم الأميركية وعوقبت فرنسا شيراك على اعتراضاتها الخجولة ضد الغزوة الأميركية … فما كتب قد كتب هي حكمة العصر الصيني بتوقيع له رمزيته ورنته لشركة “هواوي” عملاق الاتصالات وشبكاتها واجيال برمجياتها الحديثة.