الردّ على «حفلة الجنون» الأميركية: محاكاة «ترابط جبهات» محور المقاومة: إيلي حنا
شكّل التصعيد الأميركي الأخير ضدّ إيران فرصة لمحور المقاومة لتجديد تظهير الترابط العضوي بين أقطابه. ترابطٌ لا يعني بحال من الأحوال انحصار مفاعيله في الدفاع عن «دولة داعمة»، بقدر ما هو تجلٍّ لحقيقة الانخراط في المعسكر المناوئ للمشروع الأميركي ــــ الإسرائيلي ــــ «العربي»، الذي لا يستثني في استهدافاته أي طرف من هذا المحور. فصائل المقاومة في العراق، التي تضع نصب عينيها «قضم النفوذ الأميركي» في بلاد الرافدين، تجد نفسها في مقدمة المعنيّين بما تشهده المنطقة راهناً من توتر، وخصوصاً في ظلّ تتالي رسائل التهديد الأميركية إلى بغداد. وهي رسائل لم يجد مندوبو الولايات المتحدة، على ما يبدو، تجاوباً إزاءها لدى القيادة السياسية العراقية، فيما تؤكد قيادة المقاومة «(أننا) لن نلتزم بما يراه الأميركي، وسنواصل الضغوط عليه ».
وضعت واشنطن، في حربها ضد طهران، المنطقة في وعاء واحد، وأوقدت النار تحته. رغِبت الإدارة الأميركية في أن تكون إيران وحدها المستهدفة، مرتكزة على تَمْنِية لوبي عربي ــــ إسرائيلي يتطلّع إلى الجلوس على مائدة «اليانكي» لتذوّق طعم الانتصار. لكن الجمهورية الإسلامية تخطّت، مثلما ظهر أخيراً، مرحلة «الصمود الاستراتيجي»، إلى التحرك العملياتي الذي بات ضرورة مقابل دخول محاولات تركيعها مرحلة جديدة أكثر قساوة. إيران الثمانينيات لم تعد موجودة سوى لمُحبّي المقارنات. البلد الغارق في حرب مفروضة، والمنزوي في حدوده الجغرافية، له اليوم عمق حيوي واستراتيجي يفيده في ناحيتين: «الدفاع عن بعد» (خارج البلاد) و«الهجوم عن قرب» (من المحيط باتجاه الأميركي). لذلك، لا يمكن اليوم قراءة حفلة الجنون الأميركية ضد إيران من خارج الصورة العامة للمنطقة. على لسان الأميركيين والإسرائيليين، هذه المعركة تعني مستقبل سوريا والعراق وفلسطين وأمن الخليج وإسرائيل. في هذه المناطق أيضاً، لحلفاء إيران في المقابل دور يفوق مسألة الدفاع عن «دولة داعمة»، ليعني أصل وجودهم في موقعة تتصل حُكماً بقطف رؤوسهم.
القيادة الإيرانية قابلت محاصِريها بوجهين من الرسائل: الأولى سياسية (خفض مستوى التزاماتها المتصلة باليورانيوم المُخصّب والمياه الثقيلة، وإمهال الأوروبيين 60 يوماً لإنقاذ الاتفاق النووي تحت طائلة رفع مستوى التخصيب)، والثانية أمنية مباشرة وغير مباشرة. استهداف حركة «أنصار الله» خطّ أنابيب نفطياً رئيساً في السعودية بطائرات من دون طيار، وقبله «ضربة الفجيرة»، لم يُدرَجا على جبهة واشنطن سوى في إطار تلك الرسائل. في لبنان أيضاً، رصدت عيون الولايات المتحدة «عرضاً خفياً»، سرعان ما فهمته الأخيرة. أما في العراق، فهناك ساحة الكباش التي لا يكاد يمرّ يوم من دون أن تشهد تسجيل نقاط في الحساب المفتوح بين الطرفين.
ما لا يفهمه الثنائي السعودي ــــ الإماراتي من صلابة قوى المقاومة في لبنان واليمن والعراق وفلسطين، ويحاول تقزيمه ووضعه في إطار «الروزنامة الإيرانية»، يعيه الثنائي الأميركي ــــ الإسرائيلي المشغّل لهما في هذه «الحفلة» جيداً.
قوى المقاومة في المنطقة ماضية في مسار بناء قدرات غير مرتبط «بالدفاع عن إيران». تل أبيب ترى في «أنصار الله» تهديداً لها ولمصالحها بقدر ما تستشعر السعودية ذلك، وهي تريد العراق أيضاً ساحة دفاع عن أمنها الحيوي. من هنا، ساهم «حزب الحرب» في البيت الأبيض في أن يقدّم لـ«محور الشر» هدية سخية تمنحه فرصة فعلية لمحاكاة «ترابط الجبهات».
جدّد بومبيو أمام بوتين عرض تخفيف حصار إيران مقابل تقليص نفوذها
ترى مصادر قيادية في «محور المقاومة» أن «الرسائل أدت دورها إلى الآن»، وأفهمت من يعنيهم الأمر أن «أي خطأ في الحسابات يمكن أن يشعل النار». ووفقاً لمعلومات «الأخبار»، فإن تلك الرسائل لم يبدأ إمرارها مع «ضربة الفجيرة»، بل إن 4 قواعد أميركية في العراق «اشتمّت رائحة البارود» في الفترة الأخيرة، علماً بأن آخر استهداف مُعلن من هذا النوع كان في شباط/ فبراير الماضي عندما أفيد عن استهداف قاعدة «عين الأسد» الجوية في الأنبار (غرب) بصواريخ «مجهولة». عمليات الاستهداف هذه، إلى جانب مستندات وتسجيلات تُظهر أن «هناك نيات لضرب مصالحنا»، حَمَل المعطيات الأميركية في شأنها وزير خارجية الولايات المتحدة مايك بومبيو، وتوجّه إلى بغداد ليضعها على طاولة رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي. هناك، طالب بومبيو، عبد المهدي، بوضع حدّ لحراك فصائل المقاومة واستفزازاتها التي «يمكن أن تتطلب ردّاً منا»، إلى جانب توقف شركة النفط الوطنية العراقية عن تسلّم النفط الإيراني عبر الحدود البرية وبيعه في السوق مقابل عمولات. مطالب ردّ عليها رئيس الوزراء العراقي بأن شرح لضيفه أهمية محافظة بلاده على خصوصية العلاقة مع إيران، وضرورة مراعاة ذلك، وأَفْهمه بطريقة دبلوماسية أن العراق لا يتحمّل أي مشاكل داخلية. قبل هذه الطلبات/ الشروط، وصلت إلى القيادة العراقية في الآونة الأخيرة سلّة أوسع منها وأشمل، بحسب معلومات «الأخبار»، وتضمّنت: 1) إجراءات للمراقبة والتدقيق في الحسابات المالية لرجال أعمال عراقيين وعرب في المصارف العراقية، 2) التدقيق في الحركة التجارية والنفطية مع إيران، 3) التشديد على مراقبة ومنع نقل أي تكنولوجيا لإيران، 4) ضبط إدارة قوات الحشد الشعبي وإشراك قيادة الجيش في الإشراف على تسليح ونقاط انتشار وعمل هذه القوات.
لكن بغداد لم تبدِ تجاوباً مع تلك الشروط، وفق ما يوحي به حديث مصادر قيادية في فصائل المقاومة إلى «الأخبار»، إذ تقول إن «المسألة تغيّرت عن أيام (رئيس الوزراء السابق، حيدر) العبادي، لم تعد هنالك حملات ضخمة على الفصائل بعد كل احتجاج أو ضغط أميركي». وفي المرة الأخيرة، عاد الوزير الأميركي خائباً خالي الوفاض، لتقوم إدارته عقب ذلك بالإيعاز إلى موظفيها الأساسيين في سفارتها في بغداد وقنصليتها في أربيل بالانسحاب، وتتبعها دول غربية أعلنت تعليق مهمّات بعثاتها التدريبية في العراق. وفي هذا الإطار، تقول المصادر إن الأميركيين هم مَن كانوا يحمون تلك البعثات. ومع إعلانهم إجراءاتهم الأخيرة، استشعرت الدول الغربية فقدان مظلّة الحماية هذه، ما حدا بها هي الأخرى إلى سحب موظفيها (علماً بأن ألمانيا أعلنت أمس استئناف مهماتها التدريبية).
تضيف المصادر إن الأميركي حاول اللعب على وتر فصل «الحشد الشعبي» عن الجسم الحكومي، إذ أبلغ القيادة السياسية العراقية مراراً أن «مشكلتنا مع إيران وليست معكم» (وهو ما يواظب العمل عليه مجتمعياً أيضاً)، مُمرّراً في الوقت نفسه رسائل إلى فصائل المقاومة عبر عدد من السياسيين بأن «من سيتحرك ضدنا لن نرحمه». رسائل وازتها أخرى مباشرة إلى طهران، بأن أي «تحرك من حلفائكم في العراق سنعتبره صادراً عنكم». هذه التهديدات، التي توزعها واشنطن يمنة ويسرةً، تردّ عليها مصادر المقاومة بتأكيدها «(أننا) لن نلتزم بما يراه الأميركي، وسنواصل الضغوط عليه»، لافتة إلى أن «هدفنا قضم النفوذ الأميركي في بلادنا».
الاشتغال الأميركي على تحويل العراق إلى منصّة عمل ضد إيران، يرافقه عمل متواصل على كسب موسكو إلى جانب واشنطن في مواجهة طهران. وفي هذا الإطار، تفيد معلومات «الأخبار» بأن وزير الخارجية الأميركي جدّد، خلال لقائه الأخير بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين الثلاثاء الماضي، عرض بلاده القديم القائم على مقايضة تقضي بتخفيف الحصار الاقتصادي على إيران مقابل تقليص نفوذها في سوريا، مع موافقة على تعبئة موسكو هذا الفراغ. لكن هذا العرض، الذي سبق أن باء بالفشل، يبدو تعبيراً عن «ضيق الخيارات» الأميركية أكثر منه مؤشراً إلى تعدّد الأدوات المتاحة للمواجهة.
في مواجهة «الخيبات» المتتالية، وعلوّ أصوات داخل الإدارة الأميركية رافضة للحرب على إيران، يبدو أن واشنطن ستعود لتركّز حساباتها على الخنق الاقتصادي. فهي تعتقد أن هذا الحصار سيعيد الغليان إلى الشارع، وسيفرض تصفير موارد «الحرس الثوري» الذي سيضعف في المنطقة، ما يعني إفقاد طهران القدرة على مسك زمام المبادرة في الإقليم، وخسارة في مداها الحيوي عند أي محطة كبرى في المنطقة، وأهمها «صفقة القرن»، إذ تُشكّل إيران رأس حربة في العمل على إفشال هذا المشروع على كل الصعد.
طلعات إسرائيلية فوق «صواريخ العراق»
ظهرت في الأشهر القليلة الماضية عدّة تسريبات إعلامية عن «صواريخ إيرانية في العراق تطاول إسرائيل». تل أبيب التي تعتبر العراق جزءاً من عمقها الاستراتيجي، تحاول أن تدخل هذه الساحة على غرار ما تفعل في سوريا. ولعلّ الغارات التي استهدفت منطقة البوكمال الحدودية (بين سوريا والعراق)، في حزيران/ يونيو الماضي، خير دليل على ذلك. وفي هذا السياق، علمت «الأخبار» أن السلاح الحربي الإسرائيلي نفّذ في تشرين الأول/ أكتوبر الفائت طلعات جوية فوق ثلاث مناطق عراقية يُعتقد أنها تحوي مخازن صواريخ طويلة المدى. الأميركي أوصل رسالة الإسرائيلي «لِمَن يعنيه الأمر»، وتحاشى في الوقت نفسه حدوث استهداف بالنار لهذه المواقع؛ كون فصائل المقاومة أكدت، بعد حادثة البوكمال، أن أي تحرّك إسرائيلي ضدها ستُحمِّل واشنطن مسؤوليته.
(الاخبار)