لبنان أسير الممنوعات الأميركية
غالب قنديل
ينحو معظم الساسة والاقتصاديين اللبنانيين وحتى بعض الوطنيين واليساريين منهم إلى التعامل مع المأزق الاقتصادي الراهن من خارج إطاره السياسي العام ويغيبون حقيقة ان الطريق الفعلي لكسر حلقة الاستنزاف يتطلب مشروعا جريئا يقوم على التحرر من قبضة الممنوعات الأميركية التي تأسر لبنان في براثن الهيمنة الأميركية الغربية وتحول دون تلمس منهجي لخيارات واقعية تبدأ من رؤية سياسية جديدة وعلى طلاق كلي مع النهج الذي حول ركائزه إلى مسلمات مطلقة لا نقاش فيها بل إن ذلك النقاش مغيب أصلا ويفرض عليه حظر تام.
بعض الأسئلة تطرح ذاتها لاستكشاف هذه الحقيقة بشكل جلي بعد تحول البحث في حلول الأزمة إلى لعبة حسابية في أرقام الموازنة واعتماداتها ونفقاتها ومجرد هندسة لميزان العجز لملاءمته مع الشروط الأميركية والغربية التي وضعت في إطار مؤتمر سيدر مقابل سلة القروض الموعودة التي يراهن عليها الساسة ومعهم أرباب القطاع المصرفي لضخ اموال في يباس الأسواق التي جففتها من السيولة تدابير متلاحقة اتخذها المصرف المركزي ما يستغل لخلق بيئة شعبية وسياسية مؤهلة لقبول الطلبات التي تلاقي إذعانا شاملا تحت ضغط التهويل بكارثة قادمة.
– هل من البديهي اللجوء للاستدانة حصريا من الدول وشركات الأموال الغربية وإهمال مصادر عالمية اخرى ممكنة للقروض ودون استكشاف ما تتيحه من فرص؟
– من قرر باسم السلطات اللبنانية إدارة الظهر للصين وروسيا والهند وجنوب أفريقيا وإيران في مؤتمر سيدر وفي التفاوض على سلة تمويل المشاريع المنتجة ؟
– ما هو موقع إحياء قطاعات الإنتاج من سلم الأولويات وما هي الاعتمادات المرصودة للصناعة والزراعة وما قيمة القروض التي ستصب في تمويل النهوض بالصناعة والزراعة.
– من يفرض على لبنان عدم المبادرة إلى اوسع الشراكات الاقتصادية مع سورية والعراق ومع الشرق الصاعد بالتوازي مع العلاقات القائمة والقديمة مع الغرب والخليج ؟
– هل من البديهي ان يعطل أي نقاش جدي في سبل الانتقال من النموذج الريعي الاقتصادي الذي قام على المضاربات المالية والعقارية وتضخم أرباح القطاع المصرفي بينما لحق الخراب الشامل بالصناعة والزراعة ورفضت جميع تدابير تحفيز الإنتاج وحمايته وليس ثمة مايشير إلى إعادة هيكلة الموازنة والسياسة الجمركية بما يراعي هذه الحاجة اللبنانية المصيرية إطلاقا ؟
– من وضع اولويات إنفاق القروض وأين جرت مناقشتها خارج الدوائر المغلقة في مجلس الإنماء والإعمار ومع خبراء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي واوصياء سيدر المتأهبين لمراقبة الشاردة والواردة في عمل الحكومة اللبنانية وتصرفاتها ؟
في الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها مصدر يتكرر وهو الشروط والإملاءات السياسية الأميركية التي حالت دون الكثير من الخطوات الضرورية لإخراج البلاد من مازقها الخانق والدليل ان وقاحة الوصاية الأميركية لاتجسدها فحسب العقوبات المصرفية المفروضة على البلد بذريعة صهيونية فاضحة ومهينة يرضخ لها اللبنانيون ويتكيفون معها ويلتمسون رضى الولايات المتحدة خوفا من تهديدها ووعيدها ضد القطاع المصرفي اللبناني بما تملكه من سطوة عالمية في هذا المجال.
أليس من المثير أن تنقل الصحف أخبارا عن احتجاج أميركي وقح وصلف تبلغه بعض المسؤولين على عقد تلزيم مستودعات النفط في الشمال لشركة روسية وعلى استقبال شركة صينية ضخمة تستكشف إمكان بناء قاعدة لوجستية في البقاع لورشتها المقبلة في سورية وقيل إن هاتين الخطوتين البسيطتين وصفتا بقضية امن قومي اميركي على لسان السفيرة اليزابيت ريتشارد ؟
رغم الضجيج عن قرب تحولنا إلى بلد نفطي لماذا لا تتضمن الخطط الحكومية ولا الموازنة بندا حول إحياء مصفاة طرابلس وسعيا لاستئناف ضخ النفط العراقي إلى لبنان وهو ما سيعني اعتماد مرفأ طرابلس كمنفذ محتمل للتصدير وتوليد فرص عمل لايستهان بها ووفرا في فاتورة استيراد المحروقات لكنه سيهز واقع الاحتكار التجاري القائم في سوق المحروقات الذي تسيطر عليه قوى معروفة ونافذة وتنبغي معاينة التصريحات الداعية لتصفية المصافي وهياكلها الإدارية المندثرة ومثلها سكة الحديد التي حكم على لبنان بالاختناق عندما غيبت عن مشاريع النهوض المزعوم منذ عام 1992 وهي قابلة أي نهوض محلي وإقليمي وأفعل الوسائل لحل ازمة المواصلات ولردم الهوة بين الريف والمدينة ولتحقيق التوازن الديمغرافي بينهما والحد من التضخم السكاني للمدن.
إنه الاستعمار الأميركي يطل بوجهه في كل شاردة وواردة وما لم ينتقل الواقع السياسي بجميع اتجاهاته إلى البحث الجدي في الخيار البديل والواقعي فالأزمات سوف تتكرر مع اشتداد تسارعها ووطأتها ونتائجها والاستعمار الأميركي سيستثمر فيها لمزيد من تجويف البلد وإضعافه أمام الأطماع والمشاريع الأميركية الصهيونية.
يخطئ من يتعامل مع الواقع اللبناني بمنطق اننا امام معضلة تتعلق بالتوزيع العادل للثروة ويسقط النماذج الغربية المستعارة حول معارك الأجور والضرائب ثم يحلم بعملية تغيير سياسي تنطلق من اتساع دوائر المعاناة فلبنان يواجه نضوبا للثروة وخرابا لمواردها المائية والطبيعية وضمورا لقطاعات الإنتاج ولكانت الكارثة ادهى لولا تحويلات العاملين في الخارج وتدفقات المال السياسي التي استهلكت في تمويل الريوع المهددة بالتراجع بعدما بات التوظيف في سندات الخزينة وفي المصارف والعقارات اجدى من تمويل أي مشروع منتج طوال ثلاثين عاما.