لا دولة وطنية في بلد مستعمر
غالب قنديل
الاستعمار الجديد هو الاسم الذي اعتمده مفكرون وقادة ثورات عديدة لتوصيف الهيمنة الإمبريالية على بلدان العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية وقد قدم العديد من الباحثين في العالم تشريحا لأدوات الاستتباع والهيمنة في العصر الجديد من القواعد العسكرية إلى القروض وصندوق النقد الدولي وسواه من وكالات التنمية الأميركية والأوروبية ودبلوماسية المساعدات واحتكار التكنولوجيا والأخطبوط الاستخباراتي والسياسي لشبكات العملاء. العلم الوطني والنشيد الوطني والدستور وإعلان دولة مستقلة لم تكن سوى علامات مشهدية اعقبت جلاء جيوش الانتداب عن المستعمرات القديمة بينما تشعبت وتعرجت أساليب الهيمنة والاستعمار وأدواتهما.
تغيرت أشياء كثيرة خلال العقود الماضية في لبنان وعلى الرغم من انبثاق مقاومة شعبية مقاتلة استطاعت فرض جلاء القوات متعددة الجنسيات بدعم سوري وإيراني بعد اجتياح عام 1982 وطردت الاحتلال الصهيوني عام 2000 وعلى الرغم من الحجم الشعبي والسياسي لإرادة الاستقلال والتحرر الوطني التي تمثلها المقاومة في الواقع السياسي اللبناني باعتراف الجميع فإن الحقيقة المرة هي ان هذا اللبنان خاضع للاستعمار الأميركي بواسطة عقوبات مصرفية ومالية اميركية مكرسة لتحقيق الهدف الصهيوني الثمين وهو إضعاف المقاومة ومحاصرتها شعبيا وسياسيا.
شعار بناء الدولة والمؤسسات في هذا البلد يتكرر منذ عام 1943 وخصوصا منذ نهاية العهد الشهابي اليتيم في الخطب والمشاريع السياسية اليسارية والإصلاحية ولا تقدم فعليا نحوه رغم آمال كبيرة اعقبت حربا اهلية مديدة بدا من التجربة ان نتائجها الحاكمة في البنى السياسية هي ترسيخ التشظي الطائفي والمذهبي وتجدد الانقسام وفوران العصبيات حول كل عنوان اختلاف سياسي وها هي الخضة الاقتصادية والمالية الراهنة تظهر ان ما حسبه بعض اللبنانيين هياكل دولة ليس إلا جزرا متناثرة لا رباط بينها.
تتنوع الآراء في تفسير هذه الاستحالة بين اعتبار الطائفية خصوصية أهلية لبنانية مقيمة او اعتبارها علة افتعلها الاستعمار وكرسها في النظام السياسي لتحول دون الانصهار الوطني للشعب المنقسم ولمنع تبلور هوية وطنية لبنانية وقيام دولة وطنية وبين من يقول بأن لبنان لا يمثل نطاقا اجتماعيا كافيا لتكوين وطن إلا في إطار وحدة قومية عربية او سورية شاملة.
تثبت التطورات ان لبنان المعاصر وإذا شاء اهله التقدم والاستقلال عن الهيمنة سيكون مكرها على قبول شكل من أشكال تلك الوحدة أقله بتقبل فكرة السوق الإقليمية المشتركة ويتوزع اللبنانيون بجميع احزابهم وقواهم بين دعاة إلغاء الطائفية السياسية وتطبيق ما ورد في اتفاق الطائف وبين تأبيد الصيغة التي أرساها الطائف للقسمة الطائفية اوتخيل بناء دولة بالحياد المستحيل عن الاستقطاب المتزايد دوليا وإقليميا في بلد يتناسى البعض ان مصير كيانه ربط منذ الولادة بحبل الصرة القومي نتيجة موقعه الجغرافي والتاريخي ونسيج سكانه وبالتحديد منذ قيام الكيان الاستعماري الصهيوني الاستيطاني في فلسطين المحتلة على حدود لبنان الجنوبية بينما يجترون جميعا خطب رثاء غياب دولة المؤسسات بلغة إرادوية وافتراضية دون تعيين نقطة البداية العملية وهي التحرر من الهيمنة الاستعمارية.
البنيان الطائفي للنظام السياسي اللبناني يحمل بصمات تشكيلة اجتماعية أهلية موروثة من القرون الماضية التي شهدت تدمير الغرب الاستعماري لفرص التراكم الرأسمالي في الشرق العربي وكان تدمير نواة صناعة الحرير في لبنان تعبيرا حيا عن ذلك بقسوة إجهاض حركة محمد علي باشا الاستقلالية الطموحة في مصر.
المعضلة اللبنانية الرئيسية التي حالت دون قيام دولة وطنية هي الخضوع للهيمنة الاستعمارية الغربية فحتى الحركة الشهابية الإصلاحية جاءت في حاصل تسوية بين الحركة التحررية القومية التي قادها الزعيم جمال عبد الناصر وبين مركز الاستعمار الجديد في العالم أي الولايات المتحدة الأميركية وقد استجمع المستعمرون قواهم وادواتهم مع اقتراب نهاية ولاية الرئيس فؤاد شهاب عام 1964 وانقلبوا على الشهابية وعملوا لتصفية ميراثها الإصلاحي وانهوا مظاهر المساكنة مع حركة التحرر العربي عبر لبنان بعد هزيمة حزيران عام 1967 وجاء العهد الانتقالي لرئاسة الراحل شار حلو تعبيرا عن التوازنات القلقة في المنطقة.
الدولة الوطنية بما هي مؤسسات راسخة تبنى على مداميك الاستقلال وبغض النظر عن جميع الجدليات القومية الوطنية والكيانية ثمة شرط وجوب تبينه التجارب التاريخية هو التحرر الوطني المحقق والناجز كشرط لبناء دولة وطنية وفي لبنان وقد تبين بالتجربة ان التخلص من الوجود الاستعماري العسكري ومن الاحتلال الصهيوني اقتضى إلى جانب ولادة حركات المقاومة الشعبية مساندة عابرة للحدود قدمتها كل من سورية وإيران وجاءت غزوة التكفير لتؤكد في السنوات الماضية ان المقاومة اللبنانية في معاركها الوجودية دفاعا عن لبنان كانت مكرهة على مقاتلة العدو في سورية وبالشراكة مع مقاومين من العراق واليمن ناهيك عن الحلف الوثيق داخل محور المقاومة مع سورية وإيران.
هذا الترابط العضوي لقضية التحرر من الاستعمار يسقط أي تخيل افتراضي لفرص الاستقلال ضمن الحدود الكيانية وحدها وارتباط ذلك الهدف حكما بالتخلص من براثن الهيمنة الاستعمارية على صعيد المنطقة برمتها وتمثل العقوبات المفروضة على لبنان وقطاعه المصرفي احد مظاهر هذه الحقيقة التي يفرضها النهج الاستعماري الأميركي للنيل من محور المقاومة والإستقلال في المنطقة.
ثمة ارتباط عضوي وثيق يفرض نفسه بين هدفي بناء مؤسسات دولة وطنية حقيقية والتحرر من الاستعمار الأميركي وهذا امر جوهري فاصل في الواقع اللبناني الراهن وهو يفترض مشروعا تحرريا يقدم صياغة جديدة لعلاقة لبنان الواجبة بمحيطه القومي والإقليمي الذي بينت التجربة القريبة والبعيدة رسوخه ومصيريته الحاسمة وأيا كان الشكل الحقوقي المتخيل لمستقبل علاقة لبنان بسورية والعراق وإيران فعبثا البحث عن خلاص فعلي في علبة سايكس بيكو المرشحة للتشظي مع كل خطة استعمارية جديدة لتصفية قضية فلسطين واستثارة العصبيات الممزقة لشعب عربي واحد بواقع تاريخه وذاكرته وعائلاته وعشائره الموزعة على جانبي الحدود والرايات والأناشيد الوطنية القطرية وها نحن على أبواب محاولة جديدة تدعى صفقة القرن.