إيران: الدفاع الذاتي في القانون الدولي: ناصر قنديل
–بفارق سبع سنوات حمل كل من محمد جواد ظريف وغونداليسا رايس شهادة الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة واحدة في أميركا هي جامعة دنفر، التي نالت رايس الدكتوراه فيها عام 1981 ونالها ظريف في عام 1988. والسنوات السبع هي فارق العمر تقريباً بينهما، وبتسلسل مشابه صعد كل منهما في سلم السياسة الدولية لدولتين، تتوزّعان طرفي التصادم على مساحة المنطقة الأهم في العالم، منذ سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي على الأقل. وهو الحدث الذي رفع مقام رايس من العلم إلى السياسة، حيث تركزت عليه كنموذج أطروحة الدكتوراه التي جعلتها مستشارة في البيت الأبيض لشؤون الاتحاد السوفياتي عام 1989، في عهد الرئيس جورج بوش الأب، لتصل إلى منصب مستشارة الأمن القومي ولاحقاً وزيرة الخارجية في عهد رئاسة إبنه جورج بوش وتخرج معه مهزومة بنظرياتها التي شكلت أساس السياسات الأميركية الفاشلة في المنطقة الأشدّ خطورة وحساسية في العالم، قبل أن تعود سياسات رايس للظهور على يدي من خلفوها في عهدي الرئيسين باراك اوباما ودونالد ترامب، بسبب الفراغ الفكري والأيديولوجي وفقدان وجود مفكر جديد مبهر يوازيها في صناعة النظريات القابلة للتحول إلى سياسات من موقع مصالح الدولة ونخبها الحاكمة .
– بدأ ظريف صعوده في الدبلوماسية الإيرانية معاوناً في سفارة بلاده في واشنطن، ليصير السفير لاحقاً ويتقدم وصولاً لتبوء منصب وزير الخارجية، ويثبت فيه، مقدماً مثالاً للسياسات المستوحاة من أطروحته التي نال عليها الدكتوراه، حتى يمكن القول إن الصراع الأميركي الإيراني هو بطريقة ما امتداد للصراع العلمي بين النظريتين اللتين تختصران أطروحتي الدكتوراه لكل من رايس وظريف، بعدما كانت مرحلة مادلين أولبرايت في عهد بيل كلينتون مرحلة كمون لنظريات رايس واختبار لنظريات أولبرايت، التي تنتمي لجيل المفكرين الاستراتيجيين النادر في حال السياسة الأميركية اليوم مع صعود رجال الأعمال المفتقرين للثقافة في عهد الرئيس ترامب، وأولبرايت هي إبنة جورج كوريل الذي كان عراب رايس العلمي ومرشدها، وقد حملت جامعة دنفر للعلاقات الدولية التي تخرجت منها رايس وتخرج منها ظريف مؤخراً اسم جورج كوريل تيمناً بدوره الكبير في الصعود العلمي للجامعة.
– تمحورت نظريات أولبرايت على الاحتواء الإيجابي في السياسة الدولية، فهي صاحبة نظرية احتواء طالبان في أفغانستان، ونظرية احتواء سورية في مفاوضات الشرق الأوسط لتحقيق السلام، وصاحبة نظريات تشكل منها عملياً ما عُرف باسم تقرير بايكر هاملتون الذي وثق فشل حربي العراق وأفغانستان، ودعا إلى الواقعية في فهم التوازنات الجديدة في السياسات الدولية ناصحاً بالتخلي عن الدعم المطلق لـ»إسرائيل» والانفتاح على صعود روسيا وإيران، وهي التي حذرت عام 2010 في تقريرها لحلف الأطلسي من نظريات التلاعب بالنسيج الاجتماعي لدول الشرق الأوسط التي تبناها المفكر برنارد لويس الذي كان شريكاً في لجنة الحكماء التي ترأستها أولبرايت بقرار من مؤتمر قمة حلف الأطلسي لرسم السياسة. ونظرية برنارد لويس المؤسسة على فهمه للتاريخ القائم برأيه على الديمغرافيا السكانية وهجراتها وليس على الجغرافيا، وهذا منطلق تبريره التاريخي لقيام كيان استيطاني على حساب السكان الأصليين وتصويره عملاً تاريخياً في كل من أميركا وفلسطين، ونظريات برنارد لويس تتلاقي في عمقها مع نظريات رايس التي توجتها بنظرية الفوضى الخلاقة.
– قامت نظرية رايس الدراسية في أطروحة الدكتوراه على بناء العلاقات الدولية وفقاً لمعادلتي التصادم القيمي، وميزان القوى المالي، وراهنت على تفكيك الاتحاد السوفياتي بقوة الثبات على التسابق على الإنفاق العسكري، والإخلاص بالتبشير بنظام ديمقراطي يحترم الحريات والحقوق الأساسية للتعبير، والانتصار المبهر الذي رفعها إلى مراتب عليا في السياسة، قابلته هزيمة مدوية عندما جرى اختباره في المنطقة الأخطر في العالم بوجه إيران، وكانت حرب العراق وبعدها حرب تموز 2006 على لبنان، ومحاولة إخضاع سورية فيهما، عنوان خطة رايس كمستشارة للأمن القومي ووزيرة للخارجية بعدها، ويُعتبر فوز حركة حماس بالانتخابات الفلسطينية في كانون الثاني 2006 الذي لم تستطع رايس تحمّل تبعاته وتقبل التعامل معه وفقاً لنظريتها، الفشل الأكبر قيمياً لما بشرت به من إخلاص لقيمتي الحرية والديمقراطية، بينما تعتبر العقوبات على إيران وفشلها في وقف تقدم البرنامج النووي الإيراني التعبير عن الفشل الآخر للجناح الموازي لنظريتها القائمة على القوة المالية الأميركية، خصوصاً عامي 2007 و2008 رغم بلوغ إيران أدنى مراتب إنتاجها من النفط الذي وصل إلى 700 ألف برميل يومياً بدلاً من مليونين ونصف مليون برميل.
– ما تفعله إدارة ترامب اليوم ليس إلا اجترار هزلي لنظريات رايس التي تعامل معها ظريف من قبل، وقد كان يشغل منصب سفير بلاده في الأمم المتحدة، حتى عام 2007، وشغل منصب مستشار في مجموعة التفاوض على الملف النووي التي كانت برئاسة رئيس مجلس الأمن القومي آنذاك، الرئيس حسن روحاني بين عامي 2003 و2007، قبل أن يعود وزيراً للخارجية عام 2013. وأطروحة ظريف التي نال الدكتوراة على أساسها وتشكل مصدر أفكاره وإدارته للدبلوماسية الإيرانية، تقوم على إمكانية إنتاج سياسة دولية لقوة ثورية من ضمن القانون الدولي، وفي ظل موازين القوى الطاغية لصالح مشروع الهيمنة الذي تمثله السياسات الأميركية.
– يعرف المتابعون للسياسات الإيرانية أن نظرية الدفاع الذاتي في القانون الدولي والسياسة، التي تمثل عنوان مشروع ظريف، تتسع للفصل بين الموقف العقائدي للدولة وبين سياساتها الخارجية، فلا مانع من الانفتاح على ترك واشنطن تغزو أفغانستان والعراق، رغم عدم الموافقة على هذا الغزو، لأن الدفاع الذاتي للدولة يجب أن يشتغل بطريقتين مختلفتين، عندما تصبح مصالحها العليا في دائرة الخطر، وعندما يتم التعارض مع مبادئها، رغم أنه في الحالتين يمكن للدفاع الذاتي أن لا يبدو خيار مواجهة في الظاهر، عندما يكون الاستدراج إلى ملعب مناسب للمواجهة، أو لتعظيم المخاطر، أو للاحتواء، وهذا ما حصل في حربي العراق وأفغانستان، لكنه ما يحصل مع الاتفاق النووي الذي ظن كثيرون أنه ترجمة لسياسة اعتدال إيرانية تريد مسايرة الأميركيين والغرب، وصنفوا ظريف معتدلاً على هذا الأساس، بينما يظهر اليوم أنه منصة استدراج لمواجهة من داخل القانون الدولي، ربحت إيران جولته الأولى ببقاء أوروبا تحت مظلته وخروج أميركا وحيدة من أحكامه واستحالة العودة لمعاقبة إيران على برنامجها النووي بقرارات أممية، وتتجه إيران الآن لربح جولته الثانية على أوروبا. وهذه نظرية الدفاع الذاتي في القانون الدولي التي يبدو أن إدارة ترامب تفتقر لمن يقرأ ليفهم حركتها، ويدرك الفشل الكبير الذي ينتظره في المواجهة معها، كما كان فشل الفوضى البناءة بالاعتماد على الدفاع الذاتي الذي قادت عبره سورية بالتعاون مع إيران وقوى المقاومة الحرب التي شنتها واشنطن بدعم دولي وإقليمي استثنائيين، لتسقط فيها قيمياً وعملياً بفعالية الدفاع الذاتي في القانون الدولي.
– الإجراءات الإيرانية الأخيرة وما سيليها فصول جديدة في علوم السياسة الدولية، بمقدار ما هي خطوات سياسيّة مثيرة.