بقلم غالب قنديل

التناقض الأميركي مع روسيا والصين

غالب قنديل            

يمثل التناقض الأميركي مع روسيا والصين أحد أبرز مستويات الصراع العالمي الدائر في العقدين الماضيين وما شهدناه من حروب بالواسطة على حافة الصدام العسكري او من حشود تصادمية كانت بمثابة كومة قش بانتظار عود ثقاب مشتعل.

المبادرات الهجومية الاستفزازية ما تزال تحمل البصمة الأميركية وليس السبب الوحيد هو جلافة الرئيس دونالد ترامب في التعبير عن العقلية الإمبراطورية المتعالية بلغة صفيقة ومتنمرة بل لأن تلك الجلافة التي عززها طاقم من غلاة اليمين المحافظ يتصدره جون بولتون ومايك بومبيو ما هي إلا تعبير عن حدية التناقضات العالمية وعن وضعية الإمبراطورية الأميركية التي تعيش منذ عشرين عاما في لحظة الخوف التاريخي من تصدع سيطرتها العالمية الأحادية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو وقد انقلبت غزواتها العسكرية في الشرق إلى مستنقع استنزاف.

تواجه الإمبراطورية أسوأ كوابيسها مع الصعود الصيني والروسي وتفتح القدرات الاقتصادية العملاقة لكل من الهند وإيران وجنوب أفريقيا وغيرها من دول العالم في الشرق والجنوب وهي تلاحظ بكل وضوح مسيرة انتقال مركز الثروة العالمية من الغرب إلى الشرق وتحولات عاصفة في المسرح الدولي ترسم حدودا لسطوة الأساطيل الأميركية التي عادت تواجه قوى عسكرية عملاقة منافسة في البحار والمحيطات ليست روسية فحسب بل صينية وإيرانية كذلك وها هو الاختبار الفنزويلي يظهر زحف التغييرات نحو الحدائق الأميركية الخلفية بعدما فرض الصمود الكوبي اعتراف واشنطن بالخسارة.

الصدمة الأميركية التي أثارت ذهول المؤسسة الحاكمة كانت في ظاهرة التناغم الروسي الصيني خلال العقدين الماضيين وقد شكلت أبرز سمات الوضع الدولي الجديد واستعصت جميع المحاولات الأميركية والغربية للتلاعب في التعامل مع القوتين الحليفتين الصاعدتين اللتين استعملتا حق النقض في توقيت مشترك لتكبيل الجموح الحربي الأميركي الأطلسي وتم بذلك حجب تغطية أممية فرضتها الولايات المتحدة لغزو أفغانستان والعراق خارج جميع القوانين والمواثيق الدولية الباقية حبرا على ورق كما تبرهن الحرب الهمجية المتواصلة ضد الشعب اليمني.

الفيتو المزدوج الأول لمنع العدوان على سورية كان صفعة أثارت الانتباه الأميركي إلى تحول نوعي في السلوك الصيني الذي انتقل من الشراكة في مواجهة الاتحاد السوفيتي إلى الشراكة مع روسيا الاتحادية في التصدي للعدوانية الأميركية الفالتة ثم جاءت فصول الحرب التجارية الأميركية الصينية لتوضح ان التناقض بين الإمبراطورية الأميركية والقوة الاقتصادية الصينية الصاعدة هو محرك رئيسي لتناقصات مرحلة عالمية جديدة بل إن بعض الكتاب الغربيين يعتبرون ان العقل الإمبراطوري الأميركي يتعامل مع كل مبادرة روسية وإيرانية بالسؤال عما تريده الصين من ورائها ورغم المبالغة في مثل هذا القول لكنه يعكس حقيقة التفكير الاستراتيجي في الغرب وهو ما اظهرته فصول التعاطي الدولي مع كل من ملف الاتفاق النووي الإيراني والعدوان على سورية.

بعدما أشعلت الولايات المتحدة حربها التجارية ضد الصين اضطرت للانكفاء تحت سقف تفاهمات الحد الأدنى الممكن وازدردت المؤسسة الحاكمة في واشنطن عنتريات دونالد ترامب عندما اكتشفت الكلفة الباهظة لخط مواصلة الاشتباك التجاري والمالي مع الصين والاستقواء بمكانة الدولار العالمية الذي بات محركا فعليا لتفكير عالمي جدي في إقامة نظام مالي عالمي بديل للسويفت الأميركي وهي حاجة يتزايد عدد دول العالم الباحثة عنها.

أما في التناقض مع روسيا التي فرضت من سورية الاعتراف بعودتها إلى المسرح العالمي كقوة عظمى فإن الصراع الأميركي الروسي يتخطى الحدود السابقة لزمن الحرب الباردة فهو اقتصاديا حاصل منافسة بين قوتين عملاقتين تتفوقان في المجالات نفسها : صناعة السلاح وصناعة النفط والغاز وهو عسكريا صراع نفوذ وانتشار على تلك القاعدة وينبغي ان يوضع في الحساب كل ما يتصل بسعي الإمبراطورية الروسية لاسترجاع مجالها الحيوي التقليدي السلافي والأرثوذكسي في اوروبا وحوض المتوسط الذي اجتاحته الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ونشرت فيه قوات وأسلحة استراتيجية تمثل تهديدا مباشرا للأمن القومي الروسي وجاهل ومعتوه كل من يتوقع مساومة روسية على هذه المسألة.

يقود الرئيس فلاديمير بوتين الصراع والمنافسة مع إدارة دونالد ترامب بالشراكة مع الصين والغاية جلب واشنطن إلى بيت الطاعة برسم سقوف لسباق التسلح بقوة التفوق الاستراتيجي الروسي الحاصل والمحقق فعليا كما برهنت سجالات تجديد معاهدة الحد من سباق التسلح النووي والتي ستفرض تقهقر واشنطن ورضوخها كثمرة لتفوق القدرات الروسية المذهلة تقنيا وعملانيا وما برهنت عليه الحركة العسكرية الروسية في سورية.

من المبكر تخيل صفقات وتفاهمات عالمية في صراع وجودي يبدو معه أفضل التمنيات هو التوصل إلى ترتيبات تبعد خطر الانفجار الكبير لحرب عالمية ماحقة بينما تبدو التسويات الشاملة صعبة ومركبة والأكيد ان المواجهة الجارية بين إيران والولايات المتحدة وكل ما يدور في الميدان السوري تتصل جذريا بهذا التوازن الدولي المتحرك وبخيارات الأطراف الكبرى المشتبكة مباشرة ام بالواسطة وعلى الواهمين ان يسألوا عن سر توقف التفاوض الأميركي مع كوريا الشمالية ليفهموا جذرية التناقضات والصراعات الكبرى الناشئة عنها وحدود التفاهمات المحتملة في الوقت الراهن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى