بعد انهيار انقلابها في فنزويلا هل ستلجأ واشنطن لخيار تجنيد المرتزقة؟ د.منذر سليمان
تبخرت آمال ورهانات واشنطن المعقودة على تنفيذ انقلاب عسكري آخر في فنزويلا، بعدما سخّرت لتنفيذه موارد وامكانيات إضافية هائلة لاعتقادها أنها استلهمت دروس الفشل السابقة للإطاحة بالرئيس نيقولاس مادورو وتسليم “عميلها” خوان غوايدو مهام الرئاسة الصورية .
يقظة الشعب في فنزويلا وقواه الحية في الحزب الشتراكي الحاكم الحقا هزيمة منكرة بالمحاولة قبل أن تبدأ؛ وتسارعت الاتهامات في الجانب المعتدي بتحميل غوايدو مسؤولية “تقديم” الموعد المقرر و “عدم انشقاق الرتب العسكرية الكبيرة” في الجيش الوطني التي راهن عليها، وفرار “بعض قادة المعارضة” بحجة لجوء سياسي لسفارات دول أخرى.
من مفارقات الزمن، تصدّر الممثل الأميركي الخاص لفنزويلا، إيليوت آبرامز، مهمة استدراج وتحريض “أنصار الرئيس هوغو شافيز” على الانضمام لجهود واشنطن لنزع الشرعية عن الرئيس مادورو.
وقال في ندوة استضافها معهد أتلانتيك كاونسيل، 25 نيسان الماضي، أن بلاده لا “.. تحبذ اقصاء الحزب الاشتراكي الفنزو يلي الموحد (حزب شافيز) عن المشاركة في مسار الديموقراطية المقبل .. وله الحق في لعب دور لإعادة بناء بلاده؛” مستدركاً أن واشنطن “تعايشت” مع قادة يساريين وصلوا للحكم عبر صناديق الاقتراع في السلفادور، وبإمكانها استيعاب الحزب الاشتراكي في السلطة مرة أخرى.
وزعم آبرامز أن اختيار مادورو كرئيس للحزب كان “بدعم مجموعة صغيرة من الأفراد الوصوليين؛ وماضون في العيش الرغيد أسوة بأصحاب المليارات.”
خيارات بارزة
الإقرار الأميركي بفشل جولة الانقلاب الأخيرة أعاد وتيرة الاهتمام إلى بعث صيغة قديمة متجددة لتجنيد مرتزقة من خارج الجنسية الأميركية والإعداد لمحاولة أخرى.
على رأس سلم تلك “الخيارات،” استنهضت المؤسسة الحاكمة خطة “خصخصة” الجهد الحربي الأميركي بتسليم المهمة “للقطاع الخاص،” الذي ستوكل إليه مهمة تجنيد وتدريب مرتزقة لمهام محدودة.
في هذا الشأن، أعيد إلى الواجهة مشروع شركة “بلاكووتر،” برئاسة الملياردير أريك برينس، الذي هزمته المقاومة العراقية بعد احتلال بلاده للعراق وارتكاب مرتزقته مجزرة ساحة النسور عام 2007 التي ذهب ضحيتها 18مدنياً عراقياً؛ واستمر في العمل تحت اسم جديد “أكاديمي” إذ كانت اليمن ساحة لمقتل مرتزقته المجندين من عناصر عسكرية تم تسريحها من بعض دول أميركا اللاتينية، وعمل كذلك في افغانستان، ومن ثم استحدث هوية أخرى لأعمال القتل والتدخل العسكري تحت واجهة تجارية “مجموعة خدمات الحدود Frontier Services Group” سجلها في هونغ كونغ.
في العراق، شوهد عناصر شركة المرتزقة الجديدة تعمل بحرية تامة في مدينة البصرة.
برينس، من جانبه، عرض على الإدارة الأميركية تسلم المهام القتالية في سوريا خلال اشتداد الجدل الداخلي بعد تصريحات الرئيس ترامب معلناً نيته الانسحاب التام منها قبل تدخل أركان المؤسسة الاستخباراتية والعسكرية الأميركية للإبقاء على تواجد عسكري مباشر هناك.
أجمعت وسائل الإعلام الأميركية في تقارير حديثة على أن السيد برينس، المؤيد بشدة للرئيس ترامب، جدد عرضه السابق للإدارة لإبرام عقد مع مؤسسته لتجنيد قوات مرتزقة للقتال في فنزويلا، قوامها من 4،000 إلى 5،000 عنصر “يتحدثون اللغة الاسبانية” بكلفة أولية نحو 40 مليون دولار.
أسبوعية نيوزويك، 30 نيسان الماضي، أوضحت أن مرتزقة برينس سيتم تجنيدهم من “البيرو، الاكوادور، وكولومبيا” وجنسيات أخرى ناطقة بالإسبانية.
وأردفت المجلة أن “برينس” عقد سلسلة اجتماعات مع مسؤولين أميركيين وقادة في المعارضة الفنزويلية “منتصف شهر نيسان” الماضي لبحث تنفيذ مخططه للإطاحة بالحكومة الشرعية في كاراكاس.
تقارير إعلامية أخرى أشارت أن جيش برينس “سيوضع تحت تصرف خوان غوايدو .. من أولى مهامه شن عمليات استخباراتية” في فنزويلا؛ وشرع برينس بحملة تبرعات مالية لتمويل العناصر المرتزقة من “مؤيدي الرئيس ترامب وأثرياء فنزويليين خارج البلاد.”
علل “برينس” مشروع تدخله في فنزويلا، مطلع الشهر الجاري لوكالة “رويترز” للأنباء، قائلاً أن قوات “الجيش الخاص ستسهم في إحداث تغيير في البلاد عبر دورها المساعد لبلورة وضع ديناميكي من شأنه وضع حد لحالة الجمود الراهنة ..”
أميركا لا تعاقب مجرميها
رموز الإدارة الأميركية الرئيسة وصناع قرارها السياسي أضحت ممثلة بالثلاثي: مستشار الأمن القومي جون بولتون؛ وزير الخارجية مايك بومبيو؛ والمبعوث الرئاسي لفنزويلا إليوت آبرامز، ورابعهم نائب الرئيس مايك بينس.
حافظ ذاك القطب على تعويم سردية إسقاط النظام البوليفاري بالقوة العسكرية والحصار الإقتصادي، مسخراً أبرز الوسائل الإعلامية وأشدها تأثيراً في الحرب النفسية ضد فنزويلا ومؤيديها، أضطرت نيويورك تايمز ونظيرتها الأخرى واشنطن بوست للتخلي عن تبجح ادعاءات الثلاثي المفرطة بالتفاؤل وحملته مسؤولية “ترويج معلومات خاطئة” عن حقيقة الأوضاع الداخلية في فنزويلا وتماسك هيئات ومؤسسات الحكم هناك.
يومية واشنطن بوست خرجت عن المألوف لديها بعنوان حاسم “انهيار خطة المعارضة والبحث عن الخطوة المقبلة” في إشارة صريحة لفشل الرهان على غوايدو وإمكانية التمهيد لاستبداله. نيويورك تايمز من جانبها حملت جون بولتون ومايك بومبيو مسؤولية “الادعاءات المفتعلة،” أي المفبركة، بشنهما حرب نفسية صرح بها الأخير بأن الرئيس نيقولاس مادورو يهم بمغادرة البلاد بالطائرة متوجهاً لكوبا “منفاه الاختياري .. بوساطة روسية،” سرعان ما فندته الخارجية الروسية على لسان الناطق الرسمي، ماريا زاخاروفا، ووصفته بالتضليل أسوة بمزاعم واشنطن السابقة بحق الرئيس الأسد.
أمام الفشل السياسي في قمة الهرم القيادي الأميركي، ينبغي الإشارة إلى عدم رضى القيادات العسكرية الأميركية عن توريط البلاد في حرب جديدة.
استضافت البنتاغون يوم الجمعة، 3 أيار الجاري، لقاءً رفيع المستوى (في الغرفة المحصنة) لتقييم مغامرة الثلاثي الفاشلة، حضره: جون بولتون، مايك بومبيو، وزير الدفاع بالوكالة باتريك شاناهان، رئيس هيئة الأركان المشتركة جوزيف دانفورد، قائد القيادة الجنوبية كريغ فوللر، مدير الاستخبارات الوطنية دان كوتس، رئيس موظفي البيت الأبيض بالوكالة مايك مولفيني، ومندوبينِ إثنين عن وكالة الاستخبارات المركزية؛ وفق ما صرح به وزير الدفاع بالوكالة لاحقاً دون الولوج في التفاصيل.
من أبرز مواقف المؤسسة العسكرية شهادة رئيس هيئة الأركان المشتركة، دانفورد، أمام لجنة الموازنة في مجلس النواب، الأول من أيار الجاري، يدحض فيها ادعاءات “جون بولتون ومايك بومبيو” مؤكداً ان الخيارات الراهنة هي في العمل “السياسي والديبلوماسي. قائد القيادة الجنوبية، فوللر، أوضح للجنة القوات المسلحة في مجلس النواب ان توجه القيادة العسكرية بوضوح هو العمل على “بناء جملة من الشراكات الإقليمية .. هذا ما ينبغي العمل من أجله، أي التحول الديموقراطي” للسلطة، مؤكداً على فشل الرهان بالعمل العسكري الإقليمي “باستثناء كولومبيا” عبر الميليشيات العاملة هناك.
يشار أيضاً للاجتماع الطاريء والعاصف الذي عقد في البيت البيض، بعد فشل رهان القطب الثلاثي، أعرب فيه نائب رئيس هيئة الأركان، بول سيلفا، عن قناعة المؤسسة العسكرية بصعوبة الحصول على قرار من الرئيس ترامب لعمل عسكري في فنزويلا قد تتخذ زمناً طويلاً، عشية الإعداد للانتخابات الرئاسية المقبلة، حسبما أفادت يومية واشنطن بوست.
باتت سياسة “قلب نظم الحكم” المناوئة وغير المهادنة لسياسات هيمنة واشنطن عناوين ولازمة في االاستراتيجية والتوجهات الأميركية منذ بداية مرحلة توسع امبراطوريتها في العالم، دشنتها بـ “مبدأ مونرو،” الرئيس الأسبق، 1832، لحصر سيطرة واشنطن على قارة أميركا الجنوبية وإقصاء أي من القوى الاستعمارية التقليدية آنذاك، ووسعت رقعة انتشارها العسكري لتصل نحو “800 قاعدة عسكرية” خارج حدود البلاد موزعة على “166 دولة أجنبية؛” تقدر كلفتها السنوية الإجمالية بما ينوف عن “50 مليار دولار، وفق بيانات البنتاغون لعام 2018.
الاحصائيات والبيانات الرسمية المتعددة لم تأخذ بالحسبان محطات أو منشآت عسكرية “مؤقتة،” كقاعدة “التنف” جنوبي سوريا، وأخرى قيد الانشاء في مناطق إقامة الكرد. تشير بيانات البنتاغون، لقيادة القارة الإفريقية العسكرية، آفريكوم، على سبيل المثال إلى “34 قاعدة حديثة في شمال وشرق وقرن القارة الإفريقية؛ ليس من بينها القاعدة في جيبوتي التي توسعت مساحتها من 88 فدان لنحو 600 فدان” مطلع الألفية.
بيد أن التغيرات الدولية التي تدركها جيداً المؤسسة العسكرية تشكل عاملاً كابحاً للمغامرات العسكرية المكشوفة، ولو لبعض الوقت، دون أن يعني ذلك الإقلاع عن الخيار العسكري برمته في أي من الساحات الدولية، بما فيها فنزويلا وربما إيران.
البنتاغون من جانبها تركت باب التكهنات مفتوحاً رافضة التأكيد على نشرها قطع بحرية متعددة بالقرب من شواطيء فنزويلا؛ مكتفية بتعليقات السياسيين بأن روسيا لديها وجود عسكري هناك؛ وبأنها استخدمت حق النقض في مجلس الأمن وشاركتها الصين بعدم إضفاء شرعية دولية على توجهات واشنطن العسكرية.
في تطور ملفت ونادر في الهرم العسكري، اصدرت قيادة القوات الجنوبية بياناً رسمياً، 3 ايار الجاري، عقب انفضاض اللقاء رفيع المستوى، سالف الذكر، تصدرته جملة ينبغي التوقف عندها بأن “نزولاً عند طلب وزير الدفاع بالوكالة، باتريك شاناهان، سيبقى قائد القوات الجنوبية في واشنطن للمساهمة في تقديم أحدث التقييمات حول الأوضاع في فنزويلا وما آلت إليه الخطط والخيارات العسكرية” المتاحة.
ربما يكمن الهدف الحقيقي في ديمومة “الحرب النفسية” ضد فنزويلا، لكن البيان لا يؤشر على نية حقيقية لشن عدوان عسكري أميركي في المدى المنظور. ما يعزز تلك الخلاصة هو تصريح أدلى به “مسؤولينِ اثنين” لنشرة بوليتيكو، مساء الثالث من أيار، بالقول أن “الاستراتيجية الأميركية (ليست إلا) قعقعة سلاح في وجه رئيس محاصر أكثر من إيذانا بعملية عسكرية أميركية في فنزويلا.”
وأضافت نقلاً عن مصادرها في الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، عقب أعلان الرئيس ترامب عن مكالمته الهاتفية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وبحث جملة قضايا من بينها سوريا وفنزويلا، وتفاديه توجيه أي اتهام لروسيا كا درج كبار مساعديه على ترويجه، قائلة إن “تصاعد التصريحات عن عمل عسكري أميركي من شبه المؤكد أنها جوفاء.”
مركز الدراسات العربية والأميركية – واشنطن