مساهمة في محاولة نقد ذاتي يساري
غالب قنديل
شهدنا بمناسبة عيد العمال العالمي تظاهرة سياسية شعبية تجمعت فيها قوى وطنية يسارية ونقابات احتفلت بالمناسبة وتركزت شعاراتها وخطبها على نقد النظام الريعي التابع ومن الواضح تماما بالنتيجة ان ذلك يؤشر إلى وجود كتلة من المجتمع اللبناني عابرة للطوائف والمناطق يسجل للحزب الشيوعي اللبناني ولحلفائه من القوى الوطنية الأخرى وخصوصا التنظيم الشعبي الناصري النجاح في استقطابها وحشدها ورفع الصوت من خلالها ضد الوصفات الاقتصادية النيوليبرالية الطاغية منذ ثلاثين عاما والتي تنذر بأزمة خطيرة يتبارى القادة والمسؤولون من مختلف المواقع في التحذير من خطورتها.
أولا من زمن بعيد يسود الإحباط صفوف الحالمين بالتغيير في لبنان وقد اصطدمت منذ العام 1975 جميع المشاريع والطروحات والآمال التغييرية بجدار انسداد سياسي صلب من خلال طغيان العصبيات الطائفية الناتجة عن تركيبة النظام السياسي التابع واتضح أنها ليست مجرد غلاف براني كما افترضنا منذ اندلاع حرب السنتين وظل يتكررالسؤال عن كيفية تفكيك الولاءات الطائفية لصالح الاستقطاب الشعبي الواسع على أساس الحقيقة الاجتماعية في بلد يعيش تحت سيطرة رأسمالية طفيلية تابعة تغولت ودمرت مصادر الثروة وهي تهدد بتبعيتها السياسية والاقتصادية للهيمنة جميع صروح الإنتاج والحياة كما تبيح أهم عناصر القوة الوطنية المتمثلة بالمقاومة المؤسسة لخيار التحرر الوطني بقتالها المجيد وتضحياتها الجليلة التي حمت لبنان وأعطته حجما إقليميا ودوليا يجعل منه مركز اهتمام ومتابعة في دوائر الغرب الاستعماري وعلامة قلق دائم ومتجدد في الكيان الصهيوني ولدى الأنظمة العربية التابعة ولاسيما المملكة السعودية ومعسكرها الإقليمي الذي شارك في جميع حروب إسرائيل ضد لبنان خلال العقود المنصرمة انطلاقا من مجموعة شرم الشيخ.
ثانيا يتبين من التجربة ان المشكلة المنهجية المركزية في نمط التفكير اليساري هي انطلاقه من تحليل طبقي افتراضي مستعار يجري إسقاط مفرداته على الواقع اللبناني ما يتحول إلى كليشهات بلا محتوى ربما تحقق الرضا الذاتي بتكرار الشكوى من المصيبة الطائفية ومعها الاستغراق في حالة الكسل الفكري السياسي التي تطبع قوى اليسار اللبناني بكل وضوح وحيث يغترب اليساريون انتظاريا عن الواقع وتحشد الذرائع لحالة التقهقر والجمود التي أصابت جميع قوى اليسار ولابد من الدعوة إلى مبادرات نقدية هي المقدمة الفعلية لفهم جديد ولاستعراض مفاتيح منهجية لتفكير جديد ندعو إليه جميع دعاة التغيير.
ان التفكير بمشروع تغييري يقتضي بداية التحرر من النمطية الإفتراضية المتمثلة في إسقاط النماذج الطبقية الغربية على بنية مجتمعية تابعة للهيمنة الاستعمارية الغربية وبات بنيانها الفعلي محكوما بتغييرات عميقة حصلت وتراكمت عناصرها بقوة وهنا يتبدى لنا ان الخطاب اليساري ينطلق من فصل تعسفي بين القضية الوطنية والقضية الاجتماعية بينما هو مرغم في تعامله مع وقائع السياسة الاقتصادية والاجتماعية على الاصطدام بالهيمنة الاستعمارية ومفرداتها وفي هذه المرحلة بالذات بات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي مصدرا مصرحا به علانية لرسم الخيارات ولإملائها بسطوة الحكومات الغربية بقيادة اميركية سافرة.
ثالثا من غير تعيين التناقض الرئيسي في كل مرحلة يتعذر على أي منهج تحليلي في السياسة تشخيص الواقع وفهمه واستنباط المهمات المركزية لأي مشروع نضالي وقد برهنت جميع التجارب التغييرية في العالم المعاصر ان لا تنمية ولا تقدم اجتماعي ولا استقلال من غير التصدي للهيمنة الاستعمارية وان أي بناء وطني حقيقي لأي اقتصاد في العالم يقوم على هذه القاعدة بالذات والنظام الريعي اللبناني ليس ناتج عبقرية الكومبرادور اللبناني بمفردها بل هو موديل عالمي أملته في لبنان مراكز الهيمنة الاستعمارية الصهيونية الرجعية وتم تحريكه منذ الطائف بمساكنة سياسية قسرية مع الدور السوري الذي جرى الانقلاب عليه على توقيت الغزوة الاستعمارية التي تصاعدت منذ احتلال العراق بعد فشل مشاريع التسوية التي كانت ركيزة رهان مشاريع اميركية اصطدمت بحركة محور المقاومة وقد نجحت الممانعة السورية الإيرانية الداعمة للمقاومة في تعطيل حركة المشروع الأميركي رغم شراسة الحروب والمعارك التي شنتها منظومة الهيمنة الغربية الصهيونية الرجعية لتصفية المقاومة التي يقودها حزب الله بجدارة رغم الانقسام الطائفي والسياسي العميق.
رابعا لم تصدر أي جهة يسارية لبنانية من سنوات دراسة واحدة اوكتيبا فيه بعض الجهد عن وضع العمال وعن حجم الوجود الفعلي للطبقة العاملة التي نتغنى بها بينما تقول لنا الوقائع الصارخة ان القوى الاجتماعية التي تمارس الاحتجاج والاعتراض الأقوى والأعلى صوتا تنتمي إلى الطبقات الوسطى كالضباط المتقاعدين والأساتذة والسائقين بينما يتجاهل اليسار اللبناني حقيقة ان المنتجين الرئيسيين في لبنان في الصناعة والزراعة والخدمات باتوا بغالبيتهم من الأشقاء السوريين والمصريين والفلسطينيين وأحيانا من البلدان الآسيوية وجميع هؤلاء الكادحين المسحوقين لم ينبس اليساريون بكلمة عنهم منذ عقود كأنما هم متواطئون مع أرباب العمل من الرأسمالية اللبنانية التابعة في إبقاء مئات آلاف الكادحين مكتومي الوجود والدور.
عندما أراد فريديرك انغلز طرح برنامج للنضال العمالي في بريطانيا انتج كتابا ثمينا عن احوال الطبقة العاملة البريطانية وعندما أراد ماوتسي تونغ بلورة برنامج لمخاطبة الفلاحين في الصين توجه إلى مقاطعة هونان ودرس الوضع الاجتماعي ميدانيا واعتبرت الحصيلة التي نشرها وعرفت بتحقيقات هونان من أهم النصوص المؤسسة للثورة الشعبية التي قادها الشيوعيون في الصين.
خامسا يشكو اليساريون من تراجع الحركة النقابية دون محاولة لفهم الأسباب فلم تتغير او تفرغ الهياكل النقابية فقط بفعل سياسي يتبع النظام الطائفي في استقطابه الشعبي وتعبيراته النقابية بل أيضا لأن تغييرات هيكلية جذرية جرت على بنية وتكوين الاقتصاد والمجتمع في بلد يحكمه الرأسمال التابع الذي دمر القطاعات المنتجة وخرب موارد الثروة وهو بلد تابع للهيمنة الغربية رغم ان شعبه انتج أعظم ظاهرة تحرر وطني في الشرق العربي ونداؤنا لليساريين : فتشوا عن التناقض الرئيسي ولا تغتربوا عن واقعكم في هندسة افتراضية ولغة افتراضية فتبقى احزابكم قوة افتراضية مغتربة وتجمعات حالمة ومحبطة وآمالكم تمنيات تجترها المواسم.
سادسا إن النضال للتحرر من هيمنة الاستعمار الأميركي واقتراح خيارات وطنية تحررية اقتصاديا على قاعدة حماية المقاومة وإسقاط العقوبات الأميركية وانتهاج شراكات اقتصادية إقليمية ودولية تناسب مصالح لبنان الفعلية يرتبط بفهم ان لبنان لن يجد متنفسا جديا من ازمته الخانقة من غير المشاركة الجدية في بناء تكتل إقليمي يضم سورية والعراق وإيران في سوق مشتركة لتنمية الإنتاج ولإعادة البناء الوطني وعلى اليساريين ان يفكروا بكيفية العمل في هذا الاتجاه كما عليهم في هذا السياق ان يتبكروا خطابا للعمال العرب والآسيويين الذين باتوا جزءا عضويا من البنيان الاقتصادي الاجتماعي مع التأكيد على حقوقهم الاجتماعية والسياسية واولها حق النازحين واللاجئين في العودة إلى ديارهم التي انتزعوا منها بقوة الحروب الاستعمارية في الشرق منذ اغتصاب فلسطين.
سابعا إن دراسة التجربة في مقاومة غزوة التكفير تبرهن لمن يفهم ان لبنان وحده ليس نطاقا كافيا لتوليد ديناميات التحرر من هيمنة الاستعمار الغربي ومن سطوة الكيان الصهيوني فالمقاومة اللبنانية ارتكزت إلى الدعم اللامحدود الذي قدمته سورية وإيران في كفاحها ضد العدو الصهيوني وكذلك في نضالها ضد عصابات التكفير والإرهاب استندت إلى حلف واسع مع سورية وإيران وروسيا والصين ومع التشكيلات الشعبية المقاومة في العراق واليمن.
إن الهيمنة الاستعمارية الاقتصادية والسياسية هي حقيقة معولمة عابرة للحدود أيضا ولايمكن ان تكون مقاومتها إلا عابرة للحدود فكيف لنا ان نتخيل في بلد محدود الموارد والقدرات فرصة كيانية لبناء اقتصاد قادر على الصمود في وجه الطغيان الاستعماري الذي يتطاول على دول كبرى كالصين وروسيا وإيران ناهيك عن سورية التي يستخدم الأميركي هياكلنا الإدارية والمصرفية لمحاصرتها بشكل سافر وهذا التشخيص يمكن البناء عليه لواحد من خيارين هما إما الركوع والخضوع والنكوص عن إرادة التحرر وإما الخروج من الجلباب الكياني إلى رحاب الشراكة القومية والإقليمية والدولية مع الحكومات والقوى المتحررة من الهيمنة للكفاح معا في شراكة مصير عمدتها دماء الشهداء الذين تمازجت ارواحهم في الدفاع عن الشرق منذ غزوة داعش والقاعدة التي دبرتها المشيئة الأميركية الصهيونية لتدمير معاقل المقاومة والتمرد في المنطقة ومنها وفي مقدمتها لبنان.