ماذا تعلمنا التجربة منذ الطائف ؟
غالب قنديل
يصل لبنان اقتصاديا إلى العلقم المترسب في كعب الكأس الذي تجرعه شعبه منذ ثلاثين عاما بوعود وأوهام اختلطت فيها إغراءات الربا الشيلوكي في إطلاق حمى المضاربات العقارية والمالية والتكسب منها بوعود قرب توقيع صلح مع الكيان الصهيوني شكل محور الأحلام الوردية بازدهار مالي وتجاري وعقاري في بيروت التي تكرس الشروع في بنائها بعد الحرب لوظيفة مالية مصرفية عقارية إقليمية في سياق اوهام التطبيع العربي الصهيوني الذي سيعقب اتفاقات التسوية كما اوحى الغرب مع انعقاد مؤتمر مدريد.
شكلت وعود التخلص من المقاومة وتعميم التطبيع الشامل مع العدو التي حملها الأميركيون وبشروا بها اتباعهم اللبنانيين بعد الطائف محور التحريض ضد المقاومة وضد سورية وتحميلهما مع إيران مسؤولية حروب إسرائيل العدوانية.
تكسرت اوهام التسويات وسقطت رهانات تصفية قضية فلسطين وتصاعدت قوة المقاومة ومحورها الإقليمي وتغير الزمان السياسي وغير المنطقة برمتها بعد عشرين عاما من الحروب الضارية التي اعقبت انتصار المقاومة اللبنانية عام 2000 وما زال الأميركيون وأتباعهم يسعون إلى النيل منها وإلى خنقها وخنق لبنان معها بالعقوبات للنيل من قدرتها على تهديد سطوة إسرائيل وزعزعة هيمنتها فكيف وقد أذلت جيشها وألحقت به هزيمة مدوية في زمن العقاب الأميركي لمن يجرؤ على تبني خيار المقاومة والتحرر أو يمتلك شجاعة المجاهرة بانخراطه في الكفاح للتحرر من الهيمنة الأميركية الغربية.
إن التعلم من التجربة هو فضيلة تميز جميع الكائنات بفطرة خلقية بدائية متعارف عليها في علوم الطبيعة وهي ميزة انسانية راسخة ومصيبة اللبنانيين انهم لا يعيدون قراءة تجاربهم ليتعلموا منها ومن دروسها والبناء عليها بل يمعنون في ركوب رؤوسهم لحسابات ضيقة وقاصرة منشؤها المصالح الصغيرة .
ماذا تقول تجربة الأعوام الثلاثين الماضية في المنطقة ولبنان لمن يريد الاستفادة من دروسها في مواجهة التحديات الكثيرة المحتشدة وبمناسبة النقاش حول الأزمة الاقتصادية ؟ ثمة مبادئ بديهية ينبغي استخراجها والتشديد عليها :
أولا إن لبنان محكوم بأن يكون مستهدفا من إسرائيل باستمرار نتيجة اطماعها بالسيطرة والهيمنة وليس نتيجة وجود المقاومة التي تمثل اليوم قوة حماية ودفاع لا غنى عنها في مجابهة الأطماع الصهيونية كما تبرهن وقائع الصراع على الحقوق البحرية لكل من يفهم ويتنزه عن رواسب التحريض الأميركي الذي يحمي هيمنة إسرائيل.
ثانيا تؤكد التحولات الدولية والإقليمية سقوط النموذج الريعي الأحادي الذي أقيم بعد الحرب على وهم التطبيع الشامل مع العدو واسترجاع امجاد الخدمات وزمن الازدهار الذي قام على تقدم النموذج الخدماتي اللبناني الذي تجاوزته في العقود الماضية نماذج كثيرة في المنطقة اكثر تفوقا وقدرة وحداثة وأقله مقارنة بدبي ومناطقها الحرة وخدماتها المتقنة واستقطابها للشركات العالمية والقارية التي تتخذها مركزا إقليميا.
ثالثا فشل الاستمرار في لعبة لحس المبرد وجبرية الانتقال من دورة الريع والمضاربة إلى إقامة اقتصاد إنتاجي حقيقي والبحث عن وظيفة خدماتية إقليمية مختلفة وامتلاك شجاعة التفكير في شراكات متوازنة دوليا وإقليميا متحررة من الحظر الأميركي على التعامل الفعلي مع سورية وإيران والعراق وروسيا والصين والهند فانضمام لبنان إلى حركة التكتلات الاقليمية الشرقية يحفظ له مكانة مرموقة ويسمح بتسييل مزاياه الاقتصادية التفاضلية في عملية التكامل التي تسهم في صنع الازدهار وتوسيع الفرص.
رابعا ضرورة التخلي عن فرضية الانحياز المسبق الى المعسكر الغربي الخليجي اقتصاديا وامنيا والانتقال إلى نهج متوازن يتحدث عنه البعض كثيرا وهم كعادتهم ساهون عن إلحاح الانتقال إلى المبادرة قبل ان تنشئ القوى الشرقية الصاعدة مرتكزات بديلة تغنيها عن الحاجة إلى لبنان وموقعه وإمكاناته.
خامسا ينبغي التخلي عن كل ما سبق اعتباره بديهيات مالية واقتصادية لصالح سياسة جديدة تركز على تطوير قطاعات الإنتاج وحمايتها وإحياء موارد الثروة الطبيعية التي خربها النظام الريعي وهمشها ودمر فرص استثمارها وتوسيعها بالتوازي مع تنويع الشراكات الدولية والإقليمية.
سادسا الاستعانة بالخبرات الوطنية في تكوين خطة تنمية مستقلة بعيدا عن النصائح الأميركية والغربية وإملاءات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ودراسة التجارب العالمية في خلق فرص العمل الجديدة وتطوير مداخيل وطنية تقوم على الابتكار التقني واستقطاب الكفاءات كما فعلت إيرلندا مثلا قبل عشرين عاما حتى باتت اليوم تتقدم صفوف الريادة العالمية في اقتصاد البرمجيات الإلكترونية وتطبيقاتها.
سابعا إنشاء وزارة تخطيط وتكليفها بوضع خطة كاملة لإعادة تكوين هيكلية وطنية موحدة للإدارة العامة ودراسة سبل انتشالها من حالة الشلل وتراجع الانتاجية وإدخال التكنولوجيا الحديثة إلى عمل الوزارات والمؤسسات الحكومية التي يستغرق معظمها في العمل الورقي حتى اليوم.