إعادة بناء سورية: الأولويات، مصادر التمويل، الآفاق (42) حميدي العبدالله
دور روسيا المهم في عملية إعادة إعمار سورية، هو دور سياسي – اقتصادي، أكثر منه اقتصادي صرف أو يغلب عليه الطابع الاقتصادي – الاستثماري كما هو حال الصين، لكن لا يمكن إغفال حقيقة أن روسيا في بعض المجالات الاقتصادية ستلعب دوراً مهماً يشكل أساساً لانطلاق عملية إعادة الإعمار وتوفير متطلباتها الاستثمارية، وروسيا في هذا المجال مرشّحة بقوة للعب هذا الدور الذي قد لا يتوفر لأي دولة أخرى، بما في ذلك الصين وإيران، وبالضرورة للدولة السورية، والمقصود بذلك الاستثمار في مجال الطاقة، وإعادة تأهيل البنية التحتية لقطاع النفط والغاز، لأن روسيا تمتلك على هذا الصعيد شركاتٍ كبرى لها دورٌ استثماري في كل أنحاء العالم في هذا المجال، وهي تمتلك الاستثمار المطلوب والخبرة. وقد لحظ «مركز كارنيغي» في دراسته التي سلف ذكرها هذا الدور وأهميته في عملية إعادة إعمار سورية التي تحتاج بدايةً إلى مال لتعزيز موازنتها وادخارها الذي استنزفته الحرب و أوصلته إلى وضع في غاية الصعوبة. تشدد دراسة مركز كارنيغي في هذا السياق على «رغبة روسيا في الإفادة من عقود مربحة مرتبطة بإعادة الإعمار، هي التي تحفز الدعم الروسي لسياسة الاستثمار من دون شروط مسبقة في سورية». بديهي أن ليس لروسيا شروطاً للإسهام في عملية إعادة الإعمار، ليس فقط لأن روسيا حليف لسورية في مكافحة الإرهاب، وأن العلاقة بين البلدين والدولتين علاقة تاريخية عمرها طويل ولم تتأثر بالمتغيرات، بما في ذلك المتغيرات التي شهدتها روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، بل لأن روسيا تتبنى على المستوى الدولي سياسةً ترفض الإملاءات على الدول المستقلة، وتدعو إلى إقامة علاقات ندية قائمة على المصالح المشتركة المتساوية والمتكافئة، وهي سياسة تختلف عن سياسات الغرب الذي يصر دائماً على التدخل في شؤون الدول الأخرى، ويصر على فرض سياسته ذات الطابع الإمبريالي، التي كانت وراء تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في العديد من بلدان العالم التي فرضت عليها هذه العلاقة غير السوية، وكانت سبباً لسلسلة من الاضطرابات ونمو معارضة واسعة ضد سياسات الهيمنة.
روسيا لا تعتمد مثل هذه السياسات لا في سورية ولا مع أي دولة أخرى، بما في ذلك دولٌ مصنّفةٌ بأنها حليفةٌ للغرب، ويسعى الغرب لتجنيدها للوقوف ضد روسيا وسياستها في النطاق الدولي التي تصر على قيام نظام دولي متعدد الأقطاب.
في العودة إلى دراسة «مركز كارنيغي» حول المجالات التي سوف تركز عليها موسكو في عملية إعادة إعمار سورية، تشير الدراسة إلى «أن روسيا استحصلت، بغية زيادة منافعها الاقتصادية إلى الحد الأقصى، على عقود تفضيلية في قطاعات اقتصادية أساسية في سورية». وبديهي أن تسعى روسيا إلى ذلك فهذا هو التقليد الذي يحكم عمليات إعادة إعمار دول هدّمتها الحرب، حيث لا تكون مساهمة الدول الأخرى في العملية مساهمة متساوية، بل تسعى كل دولة للحصول على أقصى ما تطمح إليه، بهدف تحقيق فائدة مزدوجة، من جهة تنمية عائد استثمارها، لاسيما إذا كانت هذه الدولة قدمت تضحيات في الحرب التي ساهمت في عمليات الدمار الذي يحتاج إلى إعادة إعمار، وروسيا كان لها دورٌ هام لا يقل عن دور سورية في الحرب ضد الإرهاب، إن على المستوى العسكري أو على المستوى السياسي، وبديهي أن يخولها هذا الوضع الخاص لأن تحصل على أقصى منفعة ممكنة في عملية إعادة الإعمار للتعويض عن ما قدمته في الحرب للوصول إلى تحقيق الاستقرار وانطلاق عملية إعادة الإعمار.
أما بشأن «المنافع الاقتصادية» التي سعت روسيا إلى زيادتها «إلى الحدّ الأقصى» تشير دراسة «مركز كارنيغي» إلى ما صرح به قادة في قطاع الأعمال الروسي ومنهم «سيرغي كايترين» رئيس غرفة التجارة والصناعة الروسية الذي شدد على «أنه ستكون للشركات والأعمال الروسية الأولوية القصوى في تخصيص أموال إعادة الإعمار التي ستحصل عليها سورية» ويضيف كاتب الدراسة «سامويل راماني» وهو طالب دكتوراه في العلاقات الدولية في كلية سانت أنطوني في جامعة أكسفورد ويتابع تخصصه في العلاقات الروسية مع الشرق الأوسط «بعد انطلاق عملية إعادة الإعمار، سوف تتمتع الأعمال الروسية بالموقع الأكثر فعالية للاضطلاع بحضورٍ أساسيٍ في قطاعي الطاقة والبناء». لا شك أن هذه القطاعات هي التي سوف تستقطب اهتمام الشركات الروسية، وستكون المساهمة في إعادة إعمار سورية تتركز فيها لأنها تمثل مجالاً ملائماً لتخصص الشركات الكبرى الروسية التي تنشط في الخارج، وهذا يصب في مصلحة عملية إعادة الإعمار ومصلحة روسيا والشركات التي سوف تقوم بدورٍ كبير في هذه المجالات.
لم تعد المساهمة الروسية في عملية إعادة إعمار سورية محصورةً فقط في خطابات النوايا، أو التشديد على أهمية هذه المساهمة من الناحية المبدئية، بل إن دراسة «مركز كارنيغي» تلحظ أنه «في كانون الثاني عام 2018 وقعت موسكو اتفاقاً ثنائياً مع دمشق، حصلت بموجبه على حقوق حصرية لاستخراج النفط والغاز من مناطق سورية» خاضعة لسيطرة الدولة، وتضيف الدراسة «استتبع الاتفاق بتصريح لوزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك قال فيه إن موسكو وقعت خريطة طريق مع سورية حول ترميم حقول النفط وتطوير تراكمات طبيعية جديدة، ثم تبعه في تشرين الأول 2018 تعهد بالتعاون بين موسكو ودمشق لتعزيز جودة المنشآت السورية لإنتاج النفط» لم تقتصر الاستثمارات الروسية في عملية إعادة الإعمار على هذه المجالات والقطاعات، وهي قطاعات رائدة، والأرجح أنها ستلعب دور قاطرة عملية إعادة الإعمار لما ستدره على خزينة الدولة السورية، بل تعدى ذلك إلى جوانب وقطاعات أخرى. وتلحظ دراسة «مركز كارنيغي» هذه القطاعات مشددة على «أن الشركات الروسية أقامت موطئ قدم لها في قطاعات أخرى في الاقتصاد السوري… ففي آذار عام 2018 استحصلت شركات روسية على عقود مسبقة لتنفيذ مشاريع توليد الطاقة في حمص، وسكة حديد تربط مطار دمشق الدولي بوسط المدينة، ومجموعة من المصانع الصناعية التي ستؤدي دوراً أساسياً في تطور سورية مستقبلاً». وفعلاً تم تنفيذ بعض هذه المشاريع، مثل سكة الحديد التي تربط محطة القدم في دمشق مع مدينة المعارض ومطار دمشق الدولي. وبديهي أن مثل هذه المشاريع تحتاج إلى استثمارات وخبرة، ومعروف أن سورية بسبب الحرب التي شنّت عليها واستمرت فترةً طويلة استنزفت قدرات الدولة في المجالين، وبالتالي كانت بحاجةٍ ماسة إلى مثل هذا الاستثمار وغيره من الاستثمارات الروسية التي شرعت في إعادة بناء قطاعات أخرى، ومنها مناجم الفوسفات قرب تدمر.
دور روسيا في عملية إعادة إعمار سورية بات يتناسب مع الدور الذي بذلته موسكو على الصعيدين العسكري والسياسي لدعم سورية في حربها على الإرهاب، واستعادة سيادة الدولة، وبديهي أن تعزيز الاستقرار في مرحلة ما بعد الحرب رهن بنجاح عملية إعادة الإعمار وسرعة إطلاق هذه العملية، والدور الروسي على هذا الصعيد لا يضاهيه أي دور آخر، ولذلك هذا الدور هو الذي فتح آفاق عملية أمام إعادة الإعمار، وهو الذي يساهم في تعزيز زخم هذه العملية، وتوفير متطلباتها، وحمايتها من التأثيرات والضغوط المعيقة والمعرقلة، ومما لا شك فيه أن كل ذلك يشكل عوامل هامة جداً واستثنائية، ربما لم تتوفر لأي منطقة هدمتها الحروب، باستثناء مشروع مارشال الذي اعتمدته الولايات المتحدة لإعادة إعمار أوروبا بسرعة ما بعد الحرب العالمية الثانية.