جدل التقشف وخطر الهيمنة
غالب قنديل
يجري تحضير الناس بالتدريج لتلقي صدمة مالية كبيرة تحت عنوان التقشف ومن الواضح ان القوى الاجتماعية القائدة في النظام الريعي مصممة على رفض المس بمكاسبها الخيالية وبامتيازاتها وهي مصممة أيضا على اقتطاع حصة كبيرة من التقديمات التي انتزعت منها تحت الضغط خلال السنوات الماضية لصالح العسكريين والمدنيين من موظفي “الدولة” ومؤسساتها العامة.
الهيكل الإداري الوظيفي في لبنان هو كناية عن جزر لكل منها قياساته منذ انطلاق العهد الإعماري بعد الحرب عندما وضعت معادلات تثبيت سعر الصرف والأجور والرواتب ورفع فوائد سندات الخزينة لتمويل الخزينة بمزيد من الدين العام الذي انطلق داخليا ثم شرع يقصد أسواق العالم المالية بسندات اليورو بوند والدولار.
من الواضح وجود تصميم على اختزال الكثير من التقديمات والتعويضات الخاصة التي تذمرت منها الحكومات دائما اتجاه الجيش اللبناني والمؤسسات الأمنية وسائر الموظفين وثمة من يعتزم المس بسلسلة الرواتب التي فرضت على السلطة في لحظة خوف سياسي من تحرك الموظفين في الشارع وانتقالهم إلى تمرد أوسع مع اشتداد ضائقتهم المعيشية ولا تملك التدابير المتخذة مصداقية التساوي بالتضحية بين كبار المستفيدين من الريع وقاعدة الهيكل العام للمؤسسات الرسمية بل اكثر إن ثمة في أرخبيل الدولة جهات تحظى بامتيازات خيالية تحرم منها جهات أخرى تحتل ترتيبا موازيا في البنيان الهيكلي للمؤسسات.
ترويج منطق التقشف لايقنع احدا من الجمهور العادي الذي يطالع ويشاهد ملامح البذخ والفجور الاستهلاكي في أعراس ومناسبات عديدة تخص أبناء وبنات الساسة من رؤساء ووزراء ونواب وبعض كبار المسؤولين التي جرت في الداخل والخارج ولا في تقارير الزيارات إلى الخارج ونفقاتها ولا في نمط الحياة اليومية لسائر أفراد الطاقم الحاكم وعائلاتهم ولا في فواتير إيجارات المباني الحكومية والسفارات في الخارج ولا في مظاهر المواكب والسيارات الفارهة ولا في كل ما يرد عبر الصحف والشاشات من معلومات عن عائدات الهندسات المالية للمصرف المركزي والمستفيدين منها ولا عن موازنات ورواتب مجلس الإنماء والإعمار والملفات المغلقة للمشاريع والمنشآت التي تحوم حولها الشبهات كمحطات تكرير المجارير التي فضحتها الأمطار ولا مليارات الكهرباء التي أهدرت منذ ثلاثين عاما لقاء الحاصل العام تحت الصفر.
التقشف يمكن ان يكون خيارا يحصنه التضامن الوطني وتعميم شامل لسلوكيات جديدة تتيح عصر النفقات في حال انطلق من مواقع القرار في مؤسسات السلطة العليا ويمكن ان يستجيب الناس لو قدم المسؤولون المثال في الإقلاع عن البذخ والتبذير وهدر المال العام والتواضع في نمط عيشهم وانتقالهم وعيش عائلاتهم أسوة بسائر اللبنانيين مع برامج جدية لتخطي النمط السابق في إدارة الشأن العام والتخلي عن السياسة الاقتصادية والمالية الفاشلة التي قادت البلاد إلى هذا المأزق الخطير وهو فشل طالما ليس معترفا به من احد في السلطة سيبقى الخطر قائما من تجريب المجرب وتصبح الدعوات كلها في دائرة شك مشروع.
اول ما يجب تغييره هو ان تلقى في سلال المهملات جميع وصفات صندوق النقد والبنك الدولي التي خربت العديد من البلدان وأن تسقط استشارات ومشاريع بيوت الخبرة الأميركية والأوروبية التي ليست سوى ادوات للهيمنة الاقتصادية والسياسية وللوصاية على القرار السيادي اللبناني وتنبغي الاستعانة بجميع الخبراء اللبنانيين الذين أكدت الأحداث صحة تحذيراتهم من مخاطر النهج الاقتصادي والمالي التابع والمدمر ونالوا نصيبهم من القمع والتهميش السياسي لإسكاتهم على يد أرباب الريع وناهبيه.
ليس لبنان جزيرة اوروبية يمكن النقاش في كيفية إنقاذها من الانهيار بغض النظر عن المخاطر والتهديدات التي تحيط بها من جهات متعددة ولاسيما من العدو الصهيوني وحيث الحماية الدفاعية تستدعي الحفاظ على تماسك الجيش المعنوي وجاهزيته وعلى صلابة المقاومة وقدراتها وهذا يعني ان كل تدبير يتخذ في هذا الاتجاه هو استثمار في الاستقرار المطلوب باعتراف خبراء المال والمصارف ورسل الاستثمار وخبراء الصناديق وهو الامر الذي يعني ان على الطاقم السياسي ان يتقشف في جميع سلوكياته قبل شد احزمة العسكريين المدعوين إلى بذل الدماء دفاعا عن الوطن ولم يبخلوا بذلك يوما وهذا معناه ان منهج الرضوخ للعقوبات الأميركية التي تستهدف القطاع المصرفي بحجة صفيقة ووقحة هي محاربة حزب الله لصالح إسرائيل يجب إسقاطه واختيار طرق بديلة في التعامل مع العقوبات الاستعمارية على طريقة الدول التي تواجه ضغوطا مشابهة في العالم وبكل صراحة إن التسويات الجارية حول هذين الملفين لا تخدم المتانة الدفاعية والمناعة الوطنية وتضعف مقومات الصمود الوطني في ظل هجمة ما يسمى صفقة القرن بما فيها.
يجب ان نسأل أنفسنا عن خلفيات الضغوط المالية والمصرفية والربط الجاري للقروض بتدابير مالية تمس الاستقرار والحماية الفعلية للبلد من خطر العدوان الصهيوني والتهديد التكفيري ( وهو ما يشبهه البعض بما جرى في أزمة انترا الشهيرة قبل نصف قرن ) ألا يعني ذلك انكشاف حقيقة الارتباط بين الهيمنة والوصاية الغربية ونظام الريع والتقاسم الطائفي واستحالة الفك بينهما وهذا ما يفترض ان تضعه في حسابها جميع القوى التي تكثر من الكلام عن التغيير وتتناسى ان التحرر من الهيمنة والتبعية هو الشرط الحاسم لأي تغيير جدي.