مؤشرات من يوم طرابلس الانتخابي
غالب قنديل
تصلح وقائع اليوم الانتخابي في طرابلس عينة سياسية لبنانية للدراسة فهي جرت في المدينة الأشد فقرا والأعلى كثافة سكانية وفي المعقل الرئيسي لتيار المستقبل الحزب اللبناني الحاكم منذ اتفاق الطائف والذي صاغ خيارات البلد الاقتصادية الاجتماعية بعد الحرب بوصفته المعروفة والتي نالت دعما متجددا من حكومات الغرب والمملكة السعودية منذ العام 1992 وهو الفريق السياسي الذي استعان بالنفوذ السياسي والأمني السوري ليحكم سيطرته على مفاصل الدولة وليشطب جميع معارضيه وناقديه.
تصرف المستقبل كحزب حاكم طيلة ما يزيد على ربع قرن من الزمن إلى حين إطاحة إدارة جورج دبيلو بوش بالتفاهمات التي عقدها بوش الأب بعد حرب الكويت والعراق مع دمشق ومن ثم تحول بعد احتلال بغداد نحو مسعى استهداف سورية لتطويعها وإخضاع تمردها على المشيئة الأميركية في قضية الصراع العربي الصهيوني ولمحاولة فك تحالفها القائم مع إيران منذ إعلان الجمهورية بعد الثورة التي اطاحت بالشاه حليف الحكومات الرجعية العربية والوكيل الإقليمي الأهم للهيمنة الأميركية بعد إسرائيل.
أولا اظهرت النتائج انكفاء غالبية كاسحة من الناخبين وبالتالي المزيد من انحسار الثقة بالعملية الانتخابية والعزوف عن تلبية الدعوات المستميتة للإقبال على التصويت الذي جعلت منه القوى السياسية المؤتلفة حول الرئيس سعد الحريري هدفا مركزيا بلا جدوى وهذا العزوف يعكس تراجع مفعول العصبية المذهبية التي استند إليها تيار المستقبل في حشد المؤيدين خلال السنوات الماضية اكثر مما يمكن اعتباره تلبية لدعوة المقاطعة التي أصدرها المعارضون الذين لا يستهان بوزنهم السياسي والشعبي الذي لو صب في صناديق الاقتراع لغير من نسب المشاركة بالتأكيد حتى لو لم يبدل في النتيجة.
ثانيا التحقيقات والمقابلات التي اجرتها وسائل الإعلام مع المواطنين حملت معها تعبيرا عن تراكم الخيبة من القوى السياسية النافذة لاسيما المستقبل وحلفائه الانتخابيين وسط ما تعيشه المدينة من معاناة خطيرة في جميع المجالات ومع ما تلقاه الناس من صدمات الوعود غير المنفذة منذ التسعينيات إلى اليوم وهكذا عبر الطرابلسيون عن نقمتهم على القوى المسؤولة عن توريط طرابلس في دورات العنف بما جلبته من ويلات ونتائج ما تزال آثارها ماثلة في مشاهد الدمار والخراب وفي حلقة واسعة ومزمنة من مآسي الضحايا والمفقودين والموقوفين وقد ظهر في عدادهم محازبون سابقون للمستقبل انقلبوا عليه.
ثالثا يلاحظ في خطاب القوى السياسية التي تجمعت حول مرشحة المستقبل توظيف المخاوف من الكارثة الاقتصادية الاجتماعية الزاحفة للدعوة إلى رص الصفوف وتجديد تفويض الحريري من اجل وعد جديد بالحل من خلال النهج نفسه وهذا في الحقيقة ما تنقاد نحوه جميع القوى السياسية اللبنانية المشاركة في السلطة تحت ضغط الخوف من انهيار وشيك لا تريد ان تتحمل مسؤوليته في نظر الناس وبالتالي فهي تدعوهم إلى دعم طريقة “المزيد من الشيء نفسه ” المتبعة منذ التسعينيات دون مراجعة.
رابعا إن المعترضين على النهج السائد كانوا في الانتخابات مبعثرين ولم يفلحوا في توحيد صفوفهم حول برنامج أو مرشح رغم أن المجموع المقدر لما حصل عليه مرشحو الاعتراض مع وزن الكتلة المعارضة الجدية كان سيغير في النتيجة بالتأكيد ولو أن اجتهاد بعض المعارضين بالمقاطعة برأيهم حرم المستقبل وشركاءه من فرص شد العصب بالشعارات والوسائل المعروفة.
منذ العهد الإعماري للرئيس الراحل رفيق الحريري عاش لبنان مندفعا في حلقة الاستدانة والريع والهدر المنظم وهو يتحرك اليوم إلى تدابير وخطط “إصلاحية ” لا تتضمن مراجعة جدية لهذا النهج ولا تحد من ارتباط النموذج الاقتصادي بالهيمنة الأميركية الغربية وتوجيهاتها وتشير الوقائع إلى تعديل هيكلي على ما كان متبعا في الثلاثين عاما الماضية من خلال “الرقابة” المباشرة لنادي الدائنين على مالية الدولة والأهم هو تعميم إشراك الشركات الاجنبية والمحلية في إدارة المرافق العامة التي ستلزم معظم مشاريعها لشركات تنفذها وتديرها لآجال طويلة بتبرير تمكينها من استرداد التكاليف وربط تلك الخطوات بسلسلة تدابير تقشفية تمس بالفئات الاجتماعية المتوسطة والفقيرة من خلال ما يردده المسؤولون عن القرارات غير الشعبية التي ظهرت بعض مؤشراتها الاجتماعية في العديد من التصريحات والمواقف.
لحس المبرد اللبناني يتواصل والوصفات المجربة تعاد مرة اخرى وبصورة أفظع مما سبق والفكر النقدي شبه معطل بقوة الهلع مما سيأتي نتيجة خيارات يدفن أصحابها رؤوسهم في الرمال ويجهدون للقول امام الجمهور انهم المؤهلون لحل المشاكل التي جلبوها على البلد بأيديهم دون أي خجل او اعتذار عن خطايا يعرفها الجميع ويسكت عنها العارفون فلا محاسبة في النظام السياسي الطائفي سوى على صغار المتورطين كما هي العادة …