المقاومة ومخاض النار والدماء
غالب قنديل
العمل غير المنجز في النقاش حول الحرب الأهلية التي يمضي ( اليوم 13 نيسان ) على تاريخ اشتعالها المفترض أربع وأربعون عاما هو النقاش النقدي العميق لاستخراج الدروس المنهجية التي يمكن ان تفيد في مراكمة خبرة فكرية وسياسية تساعد على فهم الواقع وتعقيداته وعلى التعامل مع تعبيراته ومفرداته بما هو أعمق وأدل من الإدانات المستحقة لبشاعات العنف الطائفي التي سلكت دروب التوحش وأسست لما يمكن تسميته بلغة هذا الزمن بالداعشية اللبنانية التي انتشرت على جانبي خطوط التماس في أعمال الخطف والقنص والقتل الجماعي على الهوية.
تورطت في ذلك العنف والتوحش احزاب لبنانية وفصائل فلسطينية ذات اليمين واليسار والشواهد اكثر من ان تعد او تحصى باستثناء بعض التنظيمات الصغيرة التي لم تستطع ان تقاوم الموج العاتي لطوفان الدم والعصبيات فظلت مصدرا لنماذج سلوكية خاصة ومتميزة في جزر يتيمة داخل معمعة ساحقة من العنف الطائفي على ضفتي الفعل ورد الفعل وحيث كان البحث وسط الهياج الأعمى عمن كانت له الخطوة الأولى عملا سقيما بلا جدوى.
بعد تلك العقود وما أفضت إليه ينبغي إطلاق الفكر النقدي في السعي لمعاينة احلام التغيير المتكسرة التي اصطدمت بواقع عنيد ومراجعة مناهج التفكير السياسية في فهم الواقع وتناقضاته واستخراج اولوياته وتأمل العبر التي قدمتها تلك السنوات بما هو أبعد من حدود المصارحة والمسامحة الجميلة التي تجري في بعض الصروح والمنتديات بين المحاربين القدامى من جميع ميليشيات ذلك الزمن.
يتحول في مثل اليوم الكلام عن السلم الأهلي وترداد تعابير “تنذكر وما تنعاد ” إلى نوع من الفولكلور السياسي والشعبي الذي لا تشي به مفردات التعبيرات الطائفية والتناحرية التي تنفلت في لبنان عند كل اختلاف او احتقان داخل مؤسسات النظام القائم على منع تطبيق اهم إصلاحات الطائف وهي الانتقال إلى نظام المجلسين وتدشين مسار تجاوز الصيغة الطائفية بتشكيل الهيئة العليا وفقا لما نصت عليه المادة 95 من الدستور اللبناني الجديد وهي مادة علقت جهارا بقوة الأمر الواقع ومنع تطبيقها في وقت تبذل جهود نيابية مهمة بحثا عن القوانين غير المطبقة والأولى ان يطبق الدستور اولا.
توغلت المشيئة الاستعمارية الصهيونية الرجعية في إذكاء مخاض النار والدماء كما تبين عملية استرجاع المفاصل والمحطات الكبرى لنصف قرن مشحون بالعنف والانقسام وبالحروب والغزوات الصهيونية الأطلسية المتلاحقة بمعونة الرجعية العربية وقد انجلى الدخان والغبار بعد عقود من الكفاح عن نهوض ظاهرة جبارة وقوة شعبية حاسمة كسرت المشيئة الاستعمارية الصهيونية وكانت مصدر الحيرة في جميع مراكز التخطيط الأميركية والغربية والصهيونية هي المقاومة التي سارت عكس السير فاعتزلت خطوط التماس وتحولت من فكرة نادى بها عدد قليل من السياسيين والقادة بدءا بالإمام السيد موسى الصدر واعتنقتها بعض التجمعات والقوى السياسية اليسارية ومارستها على طريقتها لتصبح اليوم قدرة هادرة ونادرة المثال فتعطي الوزن والمعنى لبلدها في المنطقة والعالم.
بغض النظر عن أي فهم إيديولوجي تقول الحصيلة اليوم ان المقاومة حررت الأرض ونجحت في كسر المستحيل الصهيوني الذي ترسخ كوهم مسيطر منذ عقود وهي تحمي البلد وتردع العدوان الصهيوني وتقول التجربة ان هذه المقاومة التي يقودها حزب الله ساهمت في الدفاع عن الشرق من سورية والعراق عندما ذكرتنا الغزوة الاستعمارية وتحدياتها بوحدة النطاق القومي وبوحدة معركة التحرر من الهيمنة ودحر ادواتها العدوانية وبأنه لا يمكن ان يحسم الصراع ضد المنظومة الاستعمارية الصهيونية الرجعية في أي بلد بمفرده بمعزل عن سائر البلدان خصوصا عندما يكون الخطر والتهديد عابرا للحدود بحكم طبيعته فإذا المعارك واحدة متشابهة في سورية وإيران والعراق ولبنان واليمن وإذا بالمقاومة اللبنانية التي دعمها المحور السوري الإيراني منذ الثمانينيات تصبح نموذجا ملهما لقوى شعبية مقاتلة تشكلت في بلدان اخرى إلى جانب الجيوش الوطنية المقاتلة.
التحدي العابر للحدود والمقاومة العابرة للحدود تحركا في ميادين هي نفسها ساحات حياة مشتركة لبلدان المنطقة وهنا هو التحدي الجديد الذي يطرح نفسه بعد كسر اخطر موجات الغزوة الاستعمارية وحيث يطرح السؤال عن كيفية بناء نطاق الحياة الواحدة في الشرق العربي ومواصلة الكفاح ضد الحلف الاستعماري الصهيوني.
المقاومة هي الذخيرة اللبنانية الأهم بعد طوفان الدماء والنار والركام وما تزال تلك الحقيقة غير معترف بها على النحو الذي تستحقه أوغير مجمع عليها وهي بأي حال لن تكون وصفة سحرية لحل جميع المشاكل كما يتخيل البعض لكنها العمود الفقري لفكرة بناء مستقبل جديد لمنطقة أثخنتها جراح الغزو الاستعماري الصهيوني وحروبه القاتلة منذ حوالي القرن.