إعادة بناء سورية: الأولويات، مصادر التمويل، الآفاق (41) حميدي العبدالله
موقع روسيا المتقدم في عملية إعادة إعمار سورية شدد عليه «مركز كارنيغي» في دراسة نشرها بتاريخ 31/1/2019 تحت عنوان «عين روسيا على إعادة الإعمار في سورية» استهلها بالقول حرفياً «تشغل روسيا موقعاً يخولها الإفادة اقتصادياً من تدفق الاستثمارات الخارجية إلى سورية». وبكل تأكيد يقصد معدو الدراسة العوامل التي مر ذكرها, وتدعم الدراسة استنتاجها هذا بتصريحات أدلى بها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مؤتمر صحافي مع نظيره الأردني في 28 كانون الأول 2018 وجاء على لسان لافروف حرفياً:«إن المساهمات الروسية في إعادة إعمار سورية تساعد على تحسين الأزمة الإنسانية». ويقول معد الدراسة :«كشفت تصريحات لافروف عن التركيز الروسي المتزايد على إعادة الإعمار الاقتصادي في سورية».
لاشك أن غالبية الاستنتاجات الواردة في دراسة كارنيغي حول طبيعة وحجم الدور الروسي في إعادة إعمار سورية هي صحيحة، حتى وإن كان هناك محاولات تعسفية للتشويش على هذا الدور, كما جاء في الدراسة ذاتها, من خلال الاعتقاد «أن من شأن تنافس ناشئ مع الصين وإيران على العقود (عقود إعادة إعمار سورية) أن يقضي على نفوذها على المدى الطويل»، وقد تناس معدّ هذه الدراسة أن عمليات إعادة الإعمار في كل أنحاء العالم تمت من خلال التعاون بين الحلفاء، ولم يسجل في تاريخ هذه العمليات استئثار دولة دون غيرها، لأن ذلك أمر مستحيل وفوق طاقة أي دولة مهما عظم شأنها وكبرت قدراتها الاقتصادية، ناهيك عن أن روسيا وكل من الصين وإيران لديهما شراكات تكاملية على المستوى الثنائي، وما ينطبق على العلاقات الثنائية يسري على علاقاتهما في سورية، وبالتالي ما هو متوقع أن يتم تعاون وتنسيق وتكامل في عملية إعادة الإعمار وليس تنافس، سيما وأن الصين وإيران تستطيعان المساهمة في إعادة الإعمار في مجالات قد لا ترغب روسيا الدخول إليها، وليس لديها الاستثمارات والخبرات الكافية، وكذلك يمكن لروسيا أن تتولى إعادة إعمار مجالات لا تتوفر للصين وإيران الخبرة والقدرة على العمل فيها بذات المستوى الذي تمثله روسيا، وفي الحقيقة أن استنتاج مركز كارنيغي الذي يسعى لتخويف روسيا من منافسة ومزاحمة صينية – إيرانية في عملية إعادة الإعمار هو أقرب إلى الأمنية والكيد السياسي منه إلى الإقرار بواقعٍ حقيقي.
على أية حال تسلط دراسة كارنيغي الضوء على عوامل إضافية تحفز روسيا للمشاركة الفعالة في إعادة الإعمار، بل حث دول غربية على الإسهام في هذه العملية، حيث ناشد وزير خارجية روسيا في المؤتمر الصحافي المشترك مع نظيره الأردني «البلدان الغربية الاستثمار في عملية إعادة الإعمار» وهي فقرة اقتبسها معدّ دراسة كارنيغي على لسان لافروف من المؤتمر الصحافي المشترك، هذه العوامل كما تشرحها دراسة كارنيغي إلى أن «الاهتمام الروسي المتزايد بعملية إعادة الإعمار السورية يسلط الضوء على هدفين استراتيجيين أساسيين: أولاً تريد روسيا ربط سورية من جديد بالأسواق العالمية» وهذا الاستنتاج يتعارض مع ما ذهب إليه معد الدراسة لجهة قلق روسيا من دور صيني – إيراني في عملية إعادة الإعمار، لأن من يسع إلى «ربط سورية من جديد بالأسواق العالمية.. ويبدأ بجمع مبلغ 400 مليار دولار الذي يعتبر ضرورياً لإعادة الإعمار» فمن البديهي أن يحرص أولاً وآخراً على مساهمة صينية – إيرانية في العملية، وليس القلق من منافسة هذين الشريكين لروسيا في الحصول على عقود إعادة الإعمار. وتضيف الدراسة في شرح «الأهداف الروسية الاستراتيجية والأساسية» في عملية إعادة الإعمار «ثانياً تسعى روسيا إلى الإفادة من تموضعها التدريجي في موقع الطرف الأساسي في عملية إعادة الإعمار السورية» لأن من شأن «تدفق الرساميل الأجنبية إلى الاقتصاد السوري أن يؤمن العملات الأجنبية التي ترتدي أهمية حيوية للشركات والأعمال الروسية».
وتضيف الدراسة مثبتةً استنتاجاً مخالفاً للاستنتاج الذي تصدّرها حول التعارض بين روسيا وكل من الصين وإيران بشأن عملية إعادة الإعمار قائلة :«بغية تزويد (الرئيس) الأسد بالموارد الاقتصادية التي يحتاج إليها لإعادة إعمار سورية، تدخلت روسيا لدى الحكومات في مختلف أنحاء العالم لدفعها إلى الاستثمار في الاقتصاد السوري» ولو كانت روسيا قلقة من مساهمات دول أخرى في إعادة الإعمار لما سعت إلى «دفع الحكومات في مختلف أنحاء العالم» للإسهام في هذه العملية، فمن يسعى إلى إقناع مختلف العالم فهو بالضرورة غير متضرر من إسهام دول حليفة له في قضايا لا تتعلق بسورية في هذه العملية، وليس لديه أي قلق في المستقبل من هذه المساهمة، على غرار ما جاء في دراسة كارنيغي. وبعد عرض لمساعي روسيا لدى الولايات المتحدة وأوروبا للإسهام في إعادة الإعمار، وهي مساعٍ مشكوك أصلاً بأن روسيا فعلاً قد قامت بها، لأن روسيا تعلم جيداً أن سورية لن تقبل مساهمة هذه الأطراف، ولاسيما الحكومات الغربية في عملية إعادة الإعمار نظراً لدورها في الحرب الإرهابية التي شنت على سورية، تتحدث الدراسة عن جهود روسية مع المملكة العربية السعودية، ولا يستبعد كاتب الدراسة أن تنجح مثل هذه الجهود تحت تأثير احتمال «أن تنظر السعودية إلى الدعم المالي لدمشق بأنه ترياق فاعل ضد الهيمنة الإيرانية في سورية في المدى الطويل»
ولكن مركز كارنيغي يؤكد أن موسكو تراهن على دور ٍكبيرٍ للصين في عملية إعادة الإعمار، وهو رهانٌ واقعيٌ، لأن الصين، كما تمّت ملاحظته تمتلك الإرادة والقدرة ويؤهلها موقفها من سورية للعب الدور الذي تتطلع إليه موسكو وفق دراسة «مركز كارنيغي» وتنقل عن «يوجين ساتانوفسكي» رئيس «معهد الشرق الأوسط» في موسكو قوله بأن الصين هي «الجهة الأكثر ترجيحاً لتمويل إعادة الإعمار السورية في المدى الطويل» وعن الأسباب التي ترجح الدور الصيني في هذه العملية :«فالصين، شأنها في ذلك شأن روسيا، ترى في (الرئيس) الأسد حصناً ضد التطرف الإسلامي في المنطقة» وتذكّر الدراسة بما أسمته «مشاركة الصين الحماسية في معرض دمشق الدولي في أيلول 2018» كتعبيرٍ «عن استعدادها للمساعدة في عملية إعادة إعمار سورية» وتعهد «الصين باستثمار ملياري دولار في إعادة إحياء الإمكانيات الصناعية السورية».
ما جاء في دراسة «مركز كارنيغي» تؤكد مرةً أخرى أهمية الدور الذي تلعبه روسيا في عملية إعادة الإعمار، وحقيقة أن هذا الدور يتجاوز الإسهام والقدرات الاستثمارية والخبرات الروسية، ويعود بالدرجة الأولى إلى دور روسيا كلاعبٍ دوليٍ وإقليميٍ، ومستوى الارتباط الذي توطد بين سورية وروسيا بفعل الحرب الإرهابية التي شنت على سورية، إذ ما كان لروسيا أن تكون معنية إلى هذا المستوى بعملية إعادة الإعمار والقيام بما تقوم به، إن لجهة المبادرات الثنائية في عملية إعادة إعمار سورية، أو لجهة السعي للحصول على مساهمات دولية وعربية وإقليمية في هذه العملية وتذليل ما يعترضها من عراقيل وعقبات، ولاسيما على مستوى الشروط التي تضعها الحكومات الغربية والعقوبات المفروضة على سورية التي تحدّ وتؤثر على زخم عملية إعادة الإعمار والحصول على كافة العناصر التي تتطلبها هذه العملية والتي يتركز بعض هذه العناصر عند الدول التي تساهم في فرض العقوبات على سورية.
ما تستطيع أن تفعله روسيا، بالتعاون مع الصين بالدرجة الأولى، لحشد الدعم لعملية إعادة الإعمار في سورية لا يمكن أن تفعله سورية أو أي طرف آخر مؤيد للدولة السورية ويريد الإسهام في عملية إعادة الإعمار.
دور روسيا فريد في عملية إعادة الإعمار يتكامل فيه البعد الاقتصادي مع البعد السياسي، وهذا ينجم عن الدور الفاعل الذي لعبته روسيا في دعم سورية في حربها ضد الإرهاب والذي لم تستطع أي جهة أخرى الارتقاء إلى مستوى ما قامت به روسيا على هذا الصعيد.